اهتمام الأئمة (عليهم السلام) بتقوية كيان الشيعة

وبعد ذلك انصبت جهود الأئمة (عليهم أفضل الصلاة والسلام) - بعهد من الله عز وجل ورسوله (صلى الله عليه وآله) وتوجيه منهما - على تقوية كيان التشيع وبلورة مفاهيمه، واستثمار مكاسبه السابقة لصالح دعوته الشريفة. وذلك بأمور:

التأكيد على تعذر تعديل مسار السلطة ولزوم مهادنتها

الأول: التأكيد على الحقيقة السابقة، وإقناع الشيعة بها، وهي تعذر إقامة الحكم الصالح، وتعديل مسار السلطة في الإسلام بعد الانحراف الذي حصل، وما ترتب عليه من سلبيات في المجتمع الإسلامي.

وأنه نتيجة لذلك صاروا هم (صلوات الله عليهم) وأتباعهم في هدنة مع السلطة الغاشمة حتى قيام الإمام الثاني عشر الحجة المهدي المنتظر (عجل الله تعالى فرجه الشريف).

من دون أن يغفلوا (عليهم السلام) جور السلطة الظالمة، وعدم شرعيتها، ووجوب مباينتها، وحرمة التعاون معها والركون إليها، وما جرى مجرى ذلك مما يكون سبباً في تقوية الحاجز النفسي بينهم وبينها.

ثمرات مهادنة السلطة

وكان نتيجة المهادنة المذكورة، وعدم التصدي لمواجهة الحاكم، وظهور ذلك عنهم (عليهم السلام) وعن شيعتهم ان كسب التشيع ...

أولاً: عدم التفريط بقدرات الشيعة وطاقاتهم، وصرفها في محاولات غير مجدية، بل قد تعود عليهم بأضرار فادحة، وتوجيه تلك القدرات والطاقات الهائلة لما ينفعهم في دينهم ودنياهم، ويركز دعوتهم الحقة ويشيدها.

بل انصراف الشيعة عن الصراع السياسي والعسكري يجعلهم - من حيث يريدون أو لا يريدون - أحرص على نشاطاتهم الدينية - خصوصاً المذهبية منها - من أجل التنفيس عن كبتهم، وتثبيت هويتهم وشخصيتهم، وإثبات وجودهم، كردّ فعل صامت على مواقف السلطات المتعاقبة ضدّهم، وجورها عليهم.

وثانياً: تخفيف ضغط السلطات على الشيعة والتشيع نسبياً، رغم ابتناء الإمامة عند الشيعة على عدم شرعية تلك السلطات، وقيام الشيعة بكثير من الممارسات التي لا تعجبها، وعدم تجاوبهم مع كثير من ممارسات السلطة، بل استنكارهم لبعضها، ولو برفق وهدوء.

وذلك لانشغال السلطة عنهم بمكافحة المعارضة المسلحة التي تكاد تكون مستمرة، وهي تهددها بالمباشرة. والى ذلك يشير ما ورد عنهم (صلوات الله عليهم) من أن الله عز وجل جعل الزيدية وقاء للشيعة[1].

وحتى لو تفرغ الحاكم للشيعة، وحاول التنكيل بهم - كما حدث كثيراً - فإنه يعدّ لدى المنصف ظالماً، بعد أن لم يمارسوا الكفاح المسلح، ولا ينازعونه سلطانه. وذلك يرفع معنوياتهم في أنفسهم، ويوجب تعاطف الناس معهم. وكلاهما مكسب مهمّ في حساب المبادئ.

إحراج السلطة نتيجة الموقف المذكور

وهذا الموقف من الشيعة قد سبب حرجاً للسلطة، فهي تدرك أنهم ينكرون شرعيتها، ويؤكدون على المعارضة الصامتة لها وشجب مواقفها، لكن لا يسهل عليها اقتحامهم لفقد المبرر لذلك أمام الناس بعد مسالمتهم لها وطاعتهم.

حتى أن هارون الرشيد كان قد حلف إن ادعى أحد الإمامة بعد الإمام أبي الحسن موسى بن جعفر الكاظم (عليه السلام) ضرب عنقه صبراً. لكنه حينما قتل الإمام الكاظم في السجن واستهان بجسده الشريف تنكيلاً بالشيعة، حيث اوجب ذلك امتعاض عامة الناس منه، غضّ النظر عن حلفه المذكور وترك الإمام أبا الحسن علي بن موسى الرضا (عليه السلام) يفتح بابه ويدعي الإمامة، لم يتعرض له بسوء[2].

ومن قبله جده عبد الله المنصور الطاغية العباسي المشهور الذي كان ناقماً على الكوفة لتشيعها رغم عدم مشاركتها في الثورات التي قامت في زمانه. فقد خطب فيها بعد قتله لإبراهيم بن عبد الله بن الحسن، وبعد أن طافوا برأسه في الكوفة فقال: ((يا أهل الكوفة عليكم لعنة الله وعلى بلد أنتم فيه. للعجب لبني امية وصبرهم عليكم، كيف لم يقتلوا مقاتلتكم ويسبوا ذراريكم ويخربوا منازلكم؟! سبئية خشبية. قائل يقول: جاءت الملائكة، وقائل يقول: جاء جبريل وهو يقول: أقدم حيزوم. ثم عمدتم إلى أهل هذا البيت وطاعتهم حسنة فأفسدتموهم وانغلتموهم. فالحمد لله الذي جعل دائرة السوء عليكم. أما والله يا أهل المدرة الخبيثة لئن بقيت لكم لأذلنكم))[3].

ولكنه - مع كل ذلك - كان محرجاً في التعامل معها بسبب مسالمتها له. فحين أخذ عبد الله بن الحسن ومن معه وسجنهم خطب بالهاشمية عسكره من أهل خراسان واستعرض حال أمير المؤمنين (صلوات الله عليه) في الخلافة وتفرق الناس عنه وقتله، ثم الإمام الحسن (عليه السلام) وصلحه مع معاوية وسيرته حتى وفاته بكثير من التشويه والتمويه، ثم قال: ((ثم قام من بعده الحسين بن علي (رضي الله عنه)، فخدعه أهل العراق وأهل الكوفة أهل الشقاق والنفاق والإغراق في الفتن أهل هذه المدرة السوء - وأشار إلى الكوفة - فوالله ما هي لي بحرب فأحاربها. ولا هي بسلم لي فأسالمها . فرّق الله بين [بيني.ظ] وبينها...))[4].

وكان ذلك عاملاً مهماً في بقاء دعوة التشيع وتوسعها على طول المدة وتواتر المصائب والمآسي على عامة الشيعة، فضلاً عن خاصتهم ورموزهم ومقدساتهم.

التركيز على فاجعة الطف وعلى ظلامة أهل البيت عليهم السلام

الثاني: التركيز على فاجعة الطف، وعلى الجانب العاطفي منها بالخصوص، والانطلاق من ذلك للتذكير بظلامة أهل البيت (صلوات الله عليهم)، وظلامة الحق الذي يحملونه ويدعون إليه، ولشجب الظالمين والإنكار عليهم، والتنفير منهم.

ثم تثبيت هوية التشيع في التولي لأولياء الله عز وجل، والبراءة من أعدائه وأعداء أهل البيت (عليهم السلام) وظالميهم وغاصبي حقوقهم. والاهتمام بالحقيقة من أجل الحقيقة، لا من أجل المكاسب المادية.

وكان الأئمة (صلوات الله عليهم) يتحرون المناسبات المختلفة للتذكير بالفاجعة، وللتفاعل بها ويؤكدون على إحيائها بالحث على زيارة الإمام الحسين (صلوات الله عليه)، وقول الشعر فيه والبكاء عليه، والتأكيد على أهمية الدمعة في ذلك، والقيام بمظاهر الحزن المختلفة من أجله (عليه السلام)، وحضور مجالس العزاء.

مع بيان عظيم اجر ذلك وجزيل ثوابه بوجه مذهل. كل ذلك في نصوص وممارسات كثيرة منهم (عليهم السلام) تفوق حد الإحصاء.

وقد فتحوا لشيعتهم الباب لأمرين لم يألفهما عامة المسلمين ولو بسبب الظروف الخانقة والفتن المتلاحقة والعصبية العمياء، التي أذهلتهم عن التعرف على واقع دينهم، والأخذ بتعاليمه الحقة التي رووها[5]، وأمروا بالرجوع فيها لأهل البيت (صلوات الله عليهم).

 


[1] الغيبة للنعماني ص: ٢٠٤ . بحار الأنوار ج: ٥٢ ص: ١٣٩.

[2] عيون أخبار الرضا ج: ۲ ص: ۲۲۷ باب: ٤٩ حديث: ٣، ٤. ويأتي الحديث بلفظه قبيل الخاتمة عند الحديث عن المراحل التي مرّت بها دعوة الحق.

[3] أنساب الاشراف ج: ٤ ص: ٣٦٢ في أواخر الحديث عن خلافته. واللفظ له. تاريخ الطبري ج: ٦ ص: ٣٣٤ في بعض سير المنصور.

[4] مروج الذهب ومعادن الجوهر ج: ۲ ص: ۲۳۸، ۲۳۹. وذكر خلافة أبي جعفر المنصور ذكر جمل من أخباره وسيره ولمع مما كان في أيامه، تاريخ الطبري ج: ٦ ص: ٣٣٤ في بعض سير المنصور.

[5] فقد روى الجمهور الحث على زيارة قبور أهل البيت (صلوات الله عليهم) والإمام الحسين (عليه السلام) خاصة. راجع مقتل الحسين للخوارزمي ج: ٢ ص: ١٦٦-١٧٢ الفصل الرابع عشر في ذكر زيارة تربة الحسين صلوات الله عليه وفضلها. وذخائر العقبى ص: ١٥١ ذكر ما جاء في زيارة قبر الحسين بن علي (رضي الله عنهما). والفتوح لابن أعثم ج: ٤ ص: ۳۳۱-۳۳۲ ابتداء أخبار مسلم بن عقيل والحسين بن علي وولده وشيعته من ورائه واهل السنة وما ذكروا في ذلك من الاختلاف، وغيرها من المصادر.

كما روى الجمهور أيضاً استحباب صوم يوم الغدير تجديداً لذكرى نصب النبي (صلى الله عليه وآله) لأمير المؤمنين (عليه السلام) وإعلان ولايته. تاريخ بغداد ج: ٨ ص: ٢٨٤ في ترجمة حبشون بن موسى بن أيوب. تاریخ دمشق ج: ٤٢ ص: ٢٣٣ في ترجمة علي بن أبي طالب (رضي الله عنه). البداية والنهاية ج: ٥ ص: ٢٣٣ في فصل لم يسمه، وج: ٧ ص: ٣٨٦ في حديث غدير خم. السيرة النبوية لابن كثير ج: ٤ ص: ٤٢٥ فصل في إيراد الحديث الدال على أنه (عليه السلام) خطب بمكان بين مكة والمدينة مرجعه من حجة الوداع يقال له غدير خم. شواهد التنزيل ج: ۱ ص: ۲۰۰، ۲۰۳. وغيرها من المصادر.