مدرسة أهل البيت (عليهم السلام) في زمانه (عليه السلام)

ازدهرت هذه المدرسة في عهد الإمام الباقر (عليه السلام)، حتى قيل لم يظهر عن أحد من ولد الحسن والحسين (عليهما السلام) من العلوم ما ظهر من الإمام الباقر (عليه السلام) من التفسير والكلام والفتيا والأحكام والحلال والحرام، قال محمد بن مسلم: (ما شجر في رأيي شيء قط إلا سألت عنه أبا جعفر (عليه السلام) حتى سألته عن ثلاثين ألف حديث، وسألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن ستة عشر ألف حديث)[1].

قام الإمام (عليه السلام) برعاية هذه المدرسة الرسالية، حتى باتَتْ معروفة على صعيد العالم الإسلامي، ففي عصر الخليفة الأموي هشام بن عبد الملك بدأت الدولة الأموية بالتصدع، وبدأت عندها الدعوة العباسية بالظهور.

فاستغل الإمام الباقر (عليه السلام) هذا الظرف المناسب، وفتح مدرسة أهل
البيت (عليهم السلام) الشهيرة، مما جعل العلماء يلتفُّون حوله، من كل حدب وصوب، وينهلون من نَمِير علومه، ومعارفه، وحِكَمِه، وتفسيراته، وقد تخرَّج من هذه المدرسة مجموعة كبيرة من الرواة، والمحدِّثين، والعلماء الثقات، فتَلقّوا علوماً كثيرة في شتى المجالات، نذكر نموذجاً منهم: زرارة بن أعين، محمد بن مسلم، أبان بن تغلب، عطاء بن أبي رباح، عمرو بن دينار، الزهري، ربيعة الرأي، ابن جريح، الأوزاعي، بسام الصيرفي، أبو حنيفة، جابر بن حيان الكوفي. وقد روى عنه معالم الدين بقايا الصحابة، ووجوه التابعين، ورؤساء فقهاء المسلمين.[2]

وذاع فضل الإمام (عليه السلام) بين الناس حيث ذكر ابن شهر آشوب في المناقب عن حبابة الوالبية إنها قالت: (رأيت رجلاً بمكة أصيلاً[3] بالملتزم أو بين الباب والحجر على صعدة من الأرض وقد حزم وسطه على المئزر بعمامة خز والغزالة[4] تخال على ذلك الجبال كالعمائم على قمم الرجال وقد صاعد كفه وطرفه نحو السماء ويدعو فلما انثال الناس عليه يستفتونه عن المعضلات ويستفتحون أبواب المشكلات فلم يرم حتى أفتاهم في ألف مسألة، ثم نهض يريد رحله ومناد ينادي بصوت صهل[5]: ألا إنّ هذا النور الأبلج[6] المسرج والنسيم الأَرِج[7] والحق المرج وآخرون يقولون: من هذا فقيل محمد بن علي الباقر علم العلم الناطق عن الفهم محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب (عليهم السلام))[8].

وكان ذلك مُصداقاً لما أخبر به الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله)جابرَ بن عبد الله الأنصاري، حيث قال (صلى الله عليه وآله): (يَا جَابر يُوشَك أن تلحق بِوَلد مِن وُلدِ الحسين، اسمُهُ كاسمي، يبقر العِلْم بقراً، فإِذَا رأيتَهُ فأَقرِأْهُ مِنِّي السَّلام)[9].

نعم، لقد بقر الإمام الباقر (عليه السلام) العلمَ، وفَجَّره في جميع مجالات الحياة، من خلال هذه المدرسة العظيمة.

وقد روى السيد حسن الصدر في كتابه: أن الشيعة هم أول من عنوا بالفقه وتدوين بعض مسائله، كالصلاة، والوضوء، وسائر الأبواب، ومن هؤلاء نذكر علي بن أبي رافع »، فقد كان من أعلام الشيعة وخيارهم في عصر الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام)، كما أنه كان كاتباً له (عليه السلام)، فألَّف كتاباً في فنون الفقه، فَصَّل فيه كل الأبواب المتعلقة بالعبادة.

وكذلك سليم بن قيس الهلالي الكوفي»، وهو مؤلف آخر، له شأن كبير في هذا الموضوع، فكان من أصحاب أمير المؤمنين (عليه السلام)، وعَاشَ إلى زمن الطاغية الحَجَّاج بن يوسف، وقد أراد الحجاج الفتك به، فلجأ إلى أبان بن عَيَّاش، فآواه، وحينما حضرته الوفاة أعطاه كتابه المشهور باسمه، وهو أول كتاب ظهر للشيعة، رواه أبان بن أبي عياش.

 


[1] الاختصاص للشيخ المفيد: ص201.

[2] بحار الأنوار للعلامة المجلسي: ج46، ص294.

[3] الأصيل: وقت العصر وبعده.

[4] الغزالة: الشمس.

[5] الصهل: حدة الصوت.

[6] الأبلج: الواضح والمضيّ.

[7] الأرج: الذي تفوح منه رائحة طيبة.

[8] مناقب آل أبي طالب ابن شهر آشوب: ج3، ص317.

[9] سبائك الذهب للمسعودي: ص329.