قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام)
(طُوبَى لِمَنْ ذَلَّ فِي نَفْسِهِ، وَطَابَ كَسْبُهُ، وَصَلَحَتْ سَرِيرَتُهُ، وَحَسُنَتْ خَلِيقَتُهُ وأَنْفَقَ الْفَضْلَ مِنْ مَالِهِ، وَأَمْسَكَ الْفَضْلَ مِنْ لِسَانِهِ، وَعَزَلَ عَنِ النَّاسِ شَرَّهُ، وَوَسِعَتْهُ السُّنَّةُ، وَلَمْ يُنْسَبْ إِلَى الْبِدْعَةِ) [1].
هذه الحكمة جاءت لبيان طريقة الضمان والتأمين والحصول على ما يتمناه الإنسان من منزلة رفيعة في الآخرة، وان التفاعل مع هذه المميزات والصفات كفيل ببناء شخصية الفرد، وحماية المجتمع، وتحصيل المطلوب أخرويا وهذه المميزات هي:
الميزة الأولى: أن لا يكون مغروراً معتزاً بما لديه من قوة أو مال أو جاه أو ولد أو غير ذلك، بل يتواضع للغير فيكون بالمقابل أن الآخرين يقدِّرون ذلك له فيكرموه ويحترموه ويوقروه فترتفع منزلته الاجتماعية ويزداد رصيده بما يؤمّن له حياة عزيزة، وهذا ما يطمح اليه من يتكبر ويشمخ زاعماً أنه يتوفر على ذلك من خلال ترفعه و غطرسته و تعالیه بینما إذا لاَنَ وتأدب ولم يسئ إلى الآخرين في تعامله فسوف يكسب المنزلة الرفيعة في الآخرة والذي قد عبّر عنها بـ طوبی:
(وهو كل مستطاب في الجنة من بقاء بلا فناء وعز بلا زوال وغنى بلا فقر)[2] وما تمثله من إدراك الأماني وتحقيق المُنى.
الميزة الثانية: أن يكون حريصاً على أن يخلو کسبه وما يحصل عليه من منافع دنيوية من الحرام أو الشبهات لأنه إذا كان ما يطلبه الإنسان من الربح والعوائد عن طريق مشروع ومن وجه حلال فسيساعده في التخفيف من الأوزار والآثام والتبعات وطول المسائلة وشدتها وعسير الحساب وأليم العقاب فيكون مقره ما أعد الله تعالى للمتقين المراقبين له في السر والعلن، أما إذا لم يلتزم بكل ذلك وتمرد على الضوابط الشرعية وطلب الربح والعوائد من طريق ملتوٍ غير مشروع ومن وجه حرام كان مقره النار وساء مصيراً.
الميزة الثالثة: أن يكون سليم القلب طاهر النفس صالح العمل طيّب النية ليحظى بذلك الوعد الذي وعده الله سبحانه وتعالى، وليتعايش مع أفراد مجتمعه بما يحقق الأمان والسلام والطمأنينة، فيكون بذلك عضواً صالحاً في المجتمع يتعلم منه الآخرون ويقتدي به الأشرار ليرتفعوا من حضيض الجهالة إلى مستوى الحكمة والعمل الصالح، وهو بذلك محترم مهاب وهذا ما يسعى اليه الإنسان وقد أمَّن التوفر عليه من خلال النية الصالحة.
فإذا أمكننا توفير عدة نماذج فسننقذ المجتمع من حالات التردي والوقوع في المشاكل والجرائم بما يربك الوضع الأمني للمجتمع، فالكل خائف ومذعور وغير مستقر لوجود ذوي النوايا السيئة في أوساطهم.
إذن من اولويات بناء المجتمع الآمن، تهيئة ذوي النية الطيبة الصالحة الحسنة بما يحقق وجود مرشدين عملياً في المجتمع لتقل نسبة الجريمة والتعدي على النّاس.
الميزة الرابعة: أن يكون حسن الأخلاق يتفاعل بإيجابية مع الآخرين ويتعامل معهم بكل احترام ومودة وبما يحقق لهم فرصة العيش بخير وسلام، وهذه الميزة إن أمكننا تحقيقها اجتماعياً وتكثير عدد المتميزين بها فسنسيطر على حالات وقوع الجريمة والحوادث المؤلمة المنهكة للمجتمع بما تتركه من أعباء وأثقال تدوم طويلاً.
الميزة الخامسة: أن يكون مواصلاً الآخرين بما يرفد المحتاجين ويساعدهم على توفير الأمور اللازمة فيكسب بذلك أصدقاء وأعواناً ومؤازرين له في الحياة، كل ذلك بفضل ما أنفقه مما زاد عن حاجته ونفقته اللازمة، لأن من الصعب على كل أحد أن يُقدم غيره على نفسه أو يقاسمه ما عنده، ولكن إذا فَضُلَ شيء فينفقهه ليبقى الأجر والمثوبة ويدوم النفع والفائدة وينشر التراحم بين النّاس.
وهناك مميزات وصفات أخرى يجب أن يتحلى بها المرء لأجل الفوز في الدارين سنذكرها في العدد القادم استكمالاً لهذه الحكمة إن شاء الله تعالى[3].
الميزة السادسة: أن يتعود الانضباط وحفظ اللسان وعدم الخوض في كل ما يقال لأن ذلك مورِّط في مشاكل ومتاعب دنيوية، وأحيانا أخروية، فاللازم أن يوازن أقواله فلا يفلت منه زمام السيطرة على لسانه، ولا يترك الأمر من دون مراقبة لأن اللسان كفيل بإسقاط الإنسان في مهاوٍ لا يسهل عليه التخلص منها.
فإذا أمسك لسانه إلّا عن اللازم له من الكلام من ذكر الله تعالى بكافة مصادیقه، أو ما يؤدي به عن أفكاره ومطالبه، أو ما يصلح به بمختلف حالات الإصلاح ما يجعل اللسان تحت طائلة الحساب والسيطرة وعدم الانفلات؛ لأن لذلك عواقب وخيمة تحكم على الإنسان بأحكام تفقده نفسه، ومرکزه، وموضعه في قلوب الآخرين، وأمواله، وأصدقاءه، وأقرباءه.
الميزة السابعة: أن یكون مأمون الجانب لا يصل شرُّه إلى الناس، وحالات وصول الشر إلى الناس كثيرة، مباشرة وغير مباشرة، عن قصد وعن لا قصد.
فلابد للإنسان التوقّي منها جميعا قدر الإمكان لئلا يقع فريسة الشر وما يجره من مواقف عدوانية يأثم عليها وعلى ممارستها في الآخرة، فيكون هو الخاسر في الدنيا والآخرة، مضافاً إلى ما يستجرّه من عداوات وأحقاد وضغائن الآخرين فيكون المجتمع معانياً من وطأة الشر وأهله بينما الأجدر بالأفراد أن يتساعدوا على إشاعة الخير ومنع الشر ليعمر المجتمع بالمحبة والإخوة الانسانية والإسلامية بما يحقق الأهداف السامية التي يسعى المصلحون إلى تحقيقها وإدامتها في المجتمع.
الميزة الثامنة: أن يكون مطبّقاً لسنة الرسول الأعظم(صلى الله عليه وآله)، وآخذاً بطريقته وسيرته من دون إضافات وزيادات لأن السُنة الشريفة قد تكفلت بإتمام جميع ما يحتاجه الإنسان فلم يبق مجال الإضافة والزيادة، فإذا ما صدرت إضافة فإنها تكون من البدعة فلابُدَّ للمسلم أن يكون كفوءاً عندما ينتسب للإسلام ديناً ويعتنقه عقيدة ولا يكتفي بمجرد الاسم والمظهر بل عليه أن يعيشه روحاً وفكرة لينطلق به نحو السمو والرفعة و كل معاني الخير، ومن ذلك أن تحصل القناعة الكافية بتمامية القوانين اللازمة لحفظ نظام الحياة بما يسع كافة الأجيال إلى يوم القيامة فلا توجد فراغات في التشريع حتى تبقى حاجة لملئها حسب الرغبات الشخصية.
فإذا طبق ذلك والتزم به من دون مخالفة مقصودة فسيضمن الحصول على المكانة الرفيعة في الآخرة، ويكون مستحقاً بجدارة للبشارة بـ(طوبى) وما تدلل عليه من حالة بلوغ المقصد. أما لو حاول الإضافة فزاد من عنده وجعل ما ليس من الدين كأنه من صلب التعاليم الشرعية فيأثم ويحاسب على ذلك؛ لأنه من التشريع المحّرم. وفي هذه الفقرة من الحكمة دعوة لتجنب ما يفعله بعض النّاس من الرجال والنساء من الالتزام بأمور لم يثبت ورودها في الشريعة.
الميزة التاسعة: أن يكون حذراً مترقباً من الانتساب إلى كل عقيدة اُحدثت تخالف الإیمان لأنها مكمن الخطر والانزلاق ولا يمكن عندها التدارك خصوصاً وأن أصحاب التيارات المواجهة الهدّامة يحاولون التوصل إلى أغراضهم بالوسائل المتعددة المختلفة بما يجعل حالة التخلص مستصعبة. ولذا فقد يزيّن ما ليس من الدين بزي الدين لينخدع به البسطاء وينطلي عليهم، ولكنه ليس من الدين بشيء أبدا.
فعلى الإنسان أن يعرض الأفكار ـ التي يدعي الالتزام بها ـ على أحكام الشريعة الإسلامية وما تحويه من سُنة النبي الأكرم وآل بيته الأطهار(صلى الله عليه وآله) الذين يستقون من منبع فیضه(صلى الله عليه وآله) لئلا يغتر وينخدع بالأباطيل المضللة[4].
مجلة بيوت المتقين العدد (69، 70)