تركيزهما (عليهما السلام) لحقيقة الإمامة بالنص

ولعل الأمر الأهم الذي تبنياه (عليهما السلام) التركيز على مفهوم الإمامة الديني الحقيقي المبتني على أن الإمامة بالنص من الله تعالى، وأن الإمام هو المنصوص عليه من الله تعالى وإن خذله الناس، ولم يتسنم السلطة، وهو الذي تجب طاعته وتعظيمه والتسليم له والاستنان بسنته، وأن الإمامة بالمعنى المذكور مقصورة على أهل البيت (صلوات الله عليهم) لا تخرج عنهم وإن خذلهم الناس، وأقصاهم الظالمون عن مناصبهم واستبدوا بالسلطة دونهم.

وقد سبق أن المسلمين كانوا في غفلة عن ذلك، وأن أمير المؤمنين (عليه أفضل الصلاة والسلام) قد نبّه له وأحياه. غير أن قِصَر مدة سلطته (عليه السلام) واستيلاء معاوية على السلطة ومشروعه الجهنمي في تحريف الحقيقة وطول مدته وما أوتي من قوة مادية هائلة، كل ذلك عرّض مشروع أمير المؤمنين (عليه أفضل الصلاة والسلام) للانهيار لولا جهود الإمامين الحسنين (صلوات الله عليهما) والبقية الباقية من خواص أصحاب أمير المؤمنين (عليه السلام) الذين حافظ عليهم الإمام الحسن (عليه السلام) في صلحه مع معاوية، كما سبق.

حيث يبدو من النصوص المتناثرة بقاء هذا المفهوم للإمامة بجهودهم وتجسيده عملياً بوجه معتد به في ذلك العصر المظلم حتى استعاد قوته بعد فاجعة الطف، وتبناه الأئمة من ذرية الحسين (عليهم الصلاة والسلام)، كما يأتي إن شاء الله تعالى.

ففي حديث سالم عن أبي عبد الله (عليه السلام): ((قال: أوصى رسول الله (صلى الله عليه وآله) إلى علي (عليه السلام) وحده، وأوصى علي (عليه السلام) إلى الحسن والحسين جميعاً، فكان الحسن إمامه. فدخل رجل يوم عرفة على الحسن (عليه السلام) وهو يتغدى والحسين (عليه السلام) صائم، ثم جاء بعد ما قبض الحسن (عليه السلام) فدخل على الحسين (عليه السلام) يوم عرفة وهو يتغدى وعلي بن الحسين (عليهما السلام) صائم، فقال له الرجل: إني دخلت على الحسن (عليه السلام) وهو يتغدى وأنت صائم، ثم دخلت عليك وأنت مفطر. فقال: إن الحسن (عليه السلام) كان إماماً، فأفطر، لئلا يتخذ صومه سنة، وليتأسى به الناس، فلما أن قبض كنت أنا الإمام، فأردت أن لا يتخذ صومي سنة، فيتأسى بي الناس))[1].

حيث يدل هذا الحديث على أن هناك جماعة من الناس ترجع إليهما (عليهما السلام) وتأتم بالإمام منهما ويتخذون عمله سنة وديناً يتدين به، فإذا صام الإمام منهما يتخيل هؤلاء الجماعة وجوب الصوم أو تأكد استحبابه، فيلتزمون به بنحو قد يجهدهم أو يشغلهم عن بعض وظائف ذلك اليوم الشريف. ويبدو كثرة عدد هذه الجماعة بنحو لا يسهل إعلامهم بحكم ذلك الصوم المذكور تفصيلا بنحو يمنع من توهمهم بسبب صوم الإمام أهميته.

ومن الملفت للنظر الحقيق الانتباه أن الإمامين الحسن والحسين (صلوات الله عليهما) يشتركان في المقام الديني والموقع الاجتماعي، ويكادان يستويان في ذلك وفارق السن بينهما ليس كبيراً، بحيث ينصهر الإمام الحسين (عليه السلام) بالإمام الحسن (عليه السلام).

ولكن التركيز على مقام الإمامة وموقعها جعل الإمام الحسين (عليه الصلاة والسلام) يتعامل مع أخيه الإمام الحسن (صلوات الله وسلامه عليه) بمنتهى الأدب والاحترام، بل تعامل التابع مع المتبوع والمأموم مع الإمام، مع تصريح النصوص - كالحديث السابق وغيره - بأن أمير المؤمنين (عليه أفضل الصلاة والسلام) بنفسه قد عهد إليهما معاً ونصّ عليها، وأن تقدم الإمام الحسن (عليه السلام) إنما كان لأنه الأكبر.

ففي موثق أبي الجارود عن أبي جعفر(عليه السلام) قال: ((سمعت أبا جعفر(عليه السلام) يقول: فرض الله عز وجل على العباد خمساً، أخذوا أربعاً وتركوا واحدة. قلت: أتسميهن لي جعلت فداك. فقال: الصلاة ... ثم نزلت الزكاة ... ثم نزل الصوم ... ثم نزل الحج ... ثم نزلت الولاية. وإنما أتاه ذلك في يوم الجمعة بعرفة... ثم إن رسول الله (صلى الله عليه وآله) حضره الذي حضر، فدعا علياً فقال: يا علي إني أريد أن أئتمنك على ما ائتمنني الله عليه من غيبه وعلمه ومن خلقه ومن دينه الذي ارتضاه لنفسه، فلم يشرك والله فيها يا زياد أحداً من الخلق. ثم إن علياً (عليه السلام) حضره الذي حضر، فدعا ولده وكانوا اثني عشر ذكراً فقال لهم: يا بني إن الله عز وجل قد أبي إلا أن يجعل فيّ سنة من يعقوب، وإن يعقوب دعا ولده، وكانوا اثني عشر ذكراً، فأخبرهم بصاحبهم ألا وإني أخبركم بصاحبكم. ألا إن هذين ابنا رسول الله (صلى الله عليه وآله) الحسن والحسين. فاسمعوا لهما وأطيعوا، ووازروهما، فإني قد ائتمنتهما على ما ائتمنني رسول الله (صلى الله عليه وآله) عليه مما ائتمنه الله عليه من خلقه ومن غيبه ومن دينه الذي ارتضاه لنفسه، فأوجب الله لهما من علي (عليه السلام) ما أوجب لعلي (عليه السلام) من رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فلم يكن لأحدهما فضل على صاحبه إلا بكبره. وإن الحسين كان إذا حضر الحسن لم ينطق في ذلك المجلس حتى يقوم ...))[2].

وقال الطبرسي عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: ((ما مشى الحسين بين يدي الحسن (عليه السلام) قط، ولا بدره بمنطق إذا اجتمعا تعظيماً له))[3]. وقال ابن شهرآشوب: ((الباقر(عليه السلام) قال: ما تكلم الحسين بين يدي الحسن إعظاماً له، ولا تكلم محمد بن الحنفية بين يدي الحسين إعظاماً له))[4].

ومن العجيب المستطرف في ذلك ما ذكره ابن سعد قال: ((أخبرنا أحمد بن عبد الله بن يونس، قال: حدثنا زهير بن معاوية، قال: حدثنا عمار بن معاوية الدهني، قال: حدثني أبو سعيد قال: رأيت الحسن والحسين يصليان مع الإمام العصر، ثم أتيا الحجر واستلماه، ثم طافا أسبوعاً وصليا ركعتين. فقال الناس: هذان ابنا رسول الله ﷺ ، فحطمهما الناس حتى لم يستطيعا أن يمضيا، ومعهما رجل من الركانات، فأخذ الحسين بيد الركاني، ورد الناس عن الحسن. وكان يجله ...))[5].

والظاهر أن الركاني الرجل القوي الشديد الذي يصحب ذوي الشأن والمقام ليدفع عنهم، كالغلام الحارس.

فمع تضمن هذا الحديث أن الناس قد نوهوا بهما معاً، إلا أن الإمام الحسين (عليه السلام) لما اشتد زحام الناس عليهما تنازل عن مقامه الاجتماعي الرفيع، واشترك مع الركاني لحفظ الإمام الحسن (عليه السلام) ومنع الناس من الضغط عليه وإزعاجه إجلالاً له وحفاظاً على مقامه المتميز، لكونه هو الإمام الأولى بالرعاية والاحترام. وقد أقره الإمام الحسن (عليه السلام) على ذلك وهو الأعرف بمقام الإمام الحسين (عليه السلام) الديني والاجتماعي، والأحرص على احترامه وحفظ كرامته. كل ذلك - فيما يبدو - لتركيز مقام الإمامة والرعاية لها.

وبذلك ونحوه تركز مقام الإمامة الحقة في ذلك الظرف الحرج الذي مرت به مع شدة التقية حتى اضطرا (عليهما السلام) للصلاة خلف الإمام الذي فرضته السلطة، كما تضمنته الرواية المتقدمة وغيرها.

فشكر الله تعالى فهما جهودهما في إيضاح الحقيقة والرعاية لها، وصلى الله عليهما وعلى آلهما الطاهرين، وسلم تسليماً كثيراً. والحمد لله رب العالمين.

 


[1] وسائل الشيعة ج: ٧ باب: ٣٣ من أبواب الصوم المندوب حديث: ۱۳. كتاب من لا يحضره الفقيه ج: ٢ ص: ٥٣ باب صوم التطوع وثوابه في الأيام المتفرقة حديث: ١١.

[2] الكافي ج: ۱ ص: ۲۹۰، ۲۹۱ باب من نصّ الله عز وجل ورسوله على الأئمة (عليهم السلام) واحداً فواحداً حديث: ٦.

[3] مشكاة الأنوار ج: ۱ ص: ۳۸۲ الفصل السابع عشر في إكرام الشيوخ حديث: ١٨.

[4] مناقب آل أبي طالب ج: ٣ ص١٦٩ باب إمامة السبطين (عليهما السلام) فصل في معالي أمورهما (عليهما السلام).

[5] ترجمة الإمام الحسين (عليه السلام) ومقتله من القسم غير المطبوع من كتاب الطبقات الكبير لابن سعد ص: ۳۷.