ومن جميع ما ذكرنا ظهر أنه لا مجال لقول من يقول: كان على الإمام الحسن (صلوات الله عليه) الاستمرار في الحرب، لا من أجل الانتصار العسكري - لما سبق من تعذره - بل كان عليه أن يستمر في الحرب حتى النفس الأخير وإن ضحى بنفسه وأهل بيته، كما فعل الإمام الحسين (صلوات الله عليه).
إذ نقول في جواب ذلك: إن تضحية الإمام الحسين (عليه السلام) لم تكن المجرد الإباء والامتناع عن الخضوع للظالم ترفعاً وإنكاراً للمنكر، ليشترك الإمام الحسن (عليه السلام) معه في ذلك، وإنما كان من أجل صلاح الدين على الأمد البعيد. ولا يتحقق ذلك في حق الإمام الحسن(عليه السلام). لاختلاف ظروفه الله عن ظروف نهضة الإمام الحسين (عليه السلام)..
أولاً: لأن معاوية قد استولى على الخلافة بعد حرب طاحنة، بررها بالطلب بدم عثمان، ثم استتبعت التحكيم الذي أضفى على خلافته شرعية صورية.
كما أن استمراره في الصراع بقوة عسكرية آخذة بالتزايد جعلت منه واقعاً مفروضاً لا يقهر، ويجب التعامل معه بحكمة بنظر جمهور الناس، وكثير من خاصتهم.
وليس هو كيزيد الذي استولى على الخلافة بولاية العهد على غرار القيصرية أو الكسروية مما لم يعهده المسلمون بعد، بل أنكروه أشدّ الإنكار. وهو بعد لم يفرض على الأرض بقوة كقوة معاوية.
واحتمال التغلب عليه بسبب نقمة الناس لخلافته كان وارداً بنظر عامة الناس، وإنما كان التخوف من قبل بعض الخاصة لحسابات منطقية لا يدركها الجمهور.
ومجرد علم الإمام (عليه السلام) بعدم شرعية خلافة معاوية لا يكفي في ترتيب الأثر على تضحيته، ما لم تكن نظرته مدعومة بالرأي الإسلامي العام، ولو في الجملة.
وثانياً: لأن الإمام الحسن (صلوات الله عليه) في موقع الصراع على السلطة، والدفاع العسكري عن خلافة قد ثبتت له ببيعة أهل الكوفة بنظر جمهور المسلمين، وبالنص عند الخاصة من شيعته، بناء على نظرية لم تأخذ موقعها المناسب عند جمهور المسلمين.
وليس هو كالإمام الحسين (صلوات الله عليه) في موقف الامتناع من البيعة والإنكار للمنكر، قانعاً بأن يترك من دون أن يقود حرباً، وإنما فرضت الحرب عليه فرضاً.
وبعبارة أخرى: الإمام الحسن (عليه السلام) كان يقود حرباً خاسرة بنظر الناس، لا يبررها إلا الإصرار الانفعالي والعناد، وليس كالإمام الحسين (عليه السلام) في موقف الدفاع في حرب ظالمة تريد أن تفرض عليه بيعة يأباها، ولا مبرر لإلزامه بها، بل هي فاقدة للشرعية بمقتضى الموازين المعروفة بين المسلمين آنذاك.
وثالثاً: لما ذكرناه آنفاً من أن دعوة التشيع في أمس الحاجة لخواص الشيعة الذين سوف تأكلهم الحرب، أو يجتثون عن جديد الأرض.
ورابعاً: لما سبق أيضاً من أن معاوية ليس كيزيد في طيشه وعنجهيته فهو - على الظاهر - لا يقوم كما قام يزيد بكثير من الجرائم الوحشية التي زادت في فظاعة فاجعة الطف وتأثيرها في نفوس المسلمين ضد الحكم الأموي.
بل من القريب جداً أن يستبقي معاوية الإمام الحسن (صلوات الله عليه) وأهل بيته لوحدهم بعد أن يقضي على أنصارهم، كما سبق، وسبق بيان آثاره السلبية.
وخامساً: لأن تجربة الحكم الأموي المرة في عهد معاوية الطويل قد زادت في مبررات الخروج عليه من قبل الإمام الحسين (صلوات الله عليه) في نظر عامة المسلمين عما كان عليه في عهد الإمام الحسن (صلوات الله عليه) قبل مرور تلك التجربة.
وسادساً: لأن ظهور الاستهتار بالدين والاستهانة بالقيم في يزيد أكثر من ظهورهما في معاوية بنظر عامة الناس... إلى غير ذلك مما يظهر للمتأمل، ويتضح به الفرق الشاسع بين ظروف الإمامين (صلوات الله عليهما) المستتبع للفرق بينهما في المواقف، وفي أهمية التضحية ومبرراتها، والآثار المترتبة عليها لصالح الدين.