تصريحات الإمام الحسن وبقية الأئمة (عليهم السلام) في توجيه الصلح

وقد أشار الإمام الحسن (صلوات الله عليه) وبقية الأئمة (عليهم السلام) لكثير مما ذكرنا من أجل توجيه موقفه مع معاوية، وإقدامه على صلحه ومهادنته، وإقناع خواص أصحابه، والتخفيف من غلواء انفعالهم من الحدث المذكور، وأسفهم له.

ففي حديث له (عليه السلام) عن صلحه مع معاوية: ((والله ما سلمت الأمر إليه إلا أني لم أجد أنصاراً، ولو وجدت أنصاراً لقاتلته ليلي ونهاري حتى يحكم الله بيني وبينه، ولكني عرفت أهل الكوفة وبلوتهم، ولا يصلح لي منهم من كان فاسداً. إنهم لا وفاء لهم ولا ذمة في قول ولا فعل. إنهم لمختلفون، ويقولون لنا إن قلوبهم معنا، وإن سيوفهم المشهورة علينا))[1].

وفي حديث له (سلام الله عليه) طويل مع أبي سعيد عقيصا قال: ((يا أبا سعيد إذا كنت إماماً من قبل الله تعالى ذكره لم يجب أن يسفه رأيي فيما أتيته من مهادنة أو محاربة وإن كان وجه الحكمة فيما أتيته ملتبساً. ألا ترى الخضر لما خرق السفينة، وقتل الغلام، وأقام الجدار سخط موسى (عليه السلام) فعله، لاشتباه وجه الحكمة عليه، حتى أخبره فرضي. هكذا أنا سخطتم عليّ بجهلكم بوجه الحكمة فيه. ولولا ما أتيت لما ترك من شيعتنا على وجه الأرض أحد إلا قتل))[2].

وفي رواية أخرى عنه (عليه السلام) أنه قال: ((إنما هادنت حقناً للدماء وصيانتها، وإشفاقاً على نفسي وأهلي والمخلصين من أصحابي))[3].

وقال (عليه السلام) لحجر بن عدي: ((يا حجر إني قد سمعت كلامك في مجلس معاوية. وليس كل إنسان يحب ما تحب، ولا رأيه كرأيك. وإني لم أفعل ما فعلت إلا إبقاء عليكم. والله تعالى كل يوم هو في شأن))[4].

وفي حديث له (عليه السلام) آخر معه قال: ((إني رأيت هوى عظم الناس في الصلح وكرهوا الحرب، فلم أحب أن أحملهم على ما يكرهون، فصالحت بقياً على شيعتنا خاصة من القتل. ورأيت دفع هذه الحروب إلى يوم ما. فإن الله كل يوم هو في شأن))[5].

قال البلاذري: ((وقام سفيان بن ليل إلى الحسن فقال: يا مذل المؤمنين وعاتبه حجر بن عدي الكندي، وقال: سوّدت وجوه المؤمنين. فقال الحسن: ما كل أحد يحب ما تحب، ولا رأيه كرأيك، وإنما فعلت ما فعلت إبقاءً عليكم)) [6].

وفي حديث ثقيف البكاء قال: رأيت الحسن بن علي (عليه السلام) عند منصرفه من معاوية وقد دخل عليه حجر بن عدي، فقال: السلام عليك يا مذل المؤمنين. فقال: مه. ما كنت مذلهم، بل أنا معز المؤمنين، وإنما أردت البقاء عليهم...))[7].

وقال (صلوات الله عليه) لعلي بن محمد بن بشير الهمداني: ((ما أردت بمصالحتي معاوية إلا أن أدفع عنكم القتل عندما رأيت من تباطؤ أصحابي عن الحرب، ونكونهم عن القتال. والله لئن سرنا إليه بالجبال والشجر ما كان بد من إفضاء هذا الأمر إليه))[8].

وقال فضيل بن مرزوق: ((أتى مالك بن ضمرة الحسن بن علي. فقال: السلام عليك يا مسخم وجوه المؤمنين. قال: يا مالك لا تقل ذلك. إني لما رأيت الناس تركوا ذلك إلا أهله خشيت أن تجتثوا عن وجه الأرض. فأردت أن يكون في الأرض ناعي. فقال: بأبي وأمي ذرية بعضها من بعض))[9].

وفي حديث له (صلوات الله عليه) مع زيد بن وهب الجهني عن أصحابه لما طعن (عليه السلام) بالمدائن قال: ((أرى والله أن معاوية خير لي من هؤلاء. يزعمون أنهم لي شيعة، ابتغوا قتلي، وانتهبوا ثقلي، وأخذوا مالي. والله لئن آخذ من معاوية عهداً أحقن به دمي، وأومن به في أهلي، خير من أن يقتلوني، فيضيع أهل بيتي وأهلي. والله لو قاتلت معاوية لأخذوا بعنقي حتى يدفعوني إليه سلماً. والله لئن أسالمه وأنا عزيز خير من أن يقتلني وأنا أسير، أو يمن علي، فتكون سبة على بني هاشم إلى آخر الدهر. ومعاوية لا يزال يمن بها وعقبه على الحي منا والميت))[10].

وفي حديث له (عليه السلام) لما دخل عليه الناس فلامه بعضهم على بيعته قال (عليه السلام): ((ويحكم ما تدرون ما عملت والله الذي عملت خير لشيعتي مما طلعت عليه الشمس أو غربت. ألا تعلمون أنني إمامكم مفترض الطاعة عليكم، وأحد سيدي شباب أهل الجنة بنص من رسول الله (صلى الله عليه وآله) عليّ؟! قالوا: بلى. قال: أما علمتم أن الخضر (عليه السلام) لما خرق السفينة ...))[11].

وفي حديث للإمام أبي جعفر محمد بن علي الباقر (صلوات الله عليه): ((والله للذي صنعه الحسن بن علي (عليما السلام) كان خيراً لهذه الأمة مما طلعت عليه الشمس))[12]. وفي حديث آخر له (عليه السلام) عن سدير وفيه: ((إن العلم الذي وضع رسول الله (صلى الله عليه وآله) عند علي(عليه السلام). من عرفه كان مؤمناً، ومن جحده كان كافراً. ثم كان بعده الحسن(عليه السلام). قلت: كيف يكون بذلك المنزلة وقد كان منه ما كان. دفعها إلى معاوية؟ فقال: اسكت، فإنه أعلم بما صنع. لولا ما صنع لكان أمر عظيم))[13]... إلى غير ذلك مما ورد عن الإمام الحسن وعن بقية الأئمة (صلوات الله عليهم أجمعين).

والحاصل: أن الإمام الحسن (صلوات الله عليه) قد نقل الشيعة بصلحه هذا من مقاتلين في حرب فاشلة، لا حرمة لهم في أعراف الحرب - خصوصاً في ذلك العصر - إلى معارضة يعتصمون بالعهد، ويتمتعون بكافة حقوق المسلمين، ولهم حرمة الدم والمال.

وبذلك يكون من حقهم أن يقوموا بنشاطهم في خدمة خط أهل البيت (صلوات الله عليهم). وهو ما حصل فعلاً. فقد بذلوا في سبيل ذلك جهوداً مكثفة أدت إلى ظهور الدعوة الحقة، وانتشارها على الصعيد العام بين المسلمين.

ولاسيما بعد أن تفرغ الإمام الحسن ( صلوات الله عليه) ومن معه من بني هاشم بعد الصلح للجانب الثقافي، وواصلوا الشوط الذي بدأه أمير المؤمنين (عليه أفضل الصلاة والسلام) وأكدوا المفاهيم التي طرحها بين المسلمين.

غاية الأمر أن معاوية بعدوانه وغشمه لم يمتع الشيعة بالحقوق المذكورة كاملة، ونكل بهم بعد ذلك، وحاول القضاء عليهم وتطويق الدعوة لخط أهل البيت (عليهم السلام).

لكن ذلك - في واقعه - زاد من قوة خط أهل البيت (صلوات الله عليهم)، وصار سبباً في بلورة دعوتهم وظهورها، وتركزها وانتشارها بين المسلمين.

 


[1] الاحتجاج ج: ۲ ص: ۱۲. بحار الأنوارج: ٤٤ ص: ١٤٧.

[2] بحار الأنوار ج: ٤٤ ص: ٢. علل الشرائع ج: ۱ ص: ۲۱۱. الطرائف في معرفة مذاهب الطوائف ص: ١٩٦.

[3] مناقب آل أبي طالب لابن شهر آشوب ج: ٣ ص: ١٩٦، تنزيه الأنبياء ص: ۲۲۲. بحار الأنوار ج: ٤٤ ص: ٥٦ .

[4] المفتوح لابن أعثم ج: ٤ ص: ٢٩٥ ذكر مسير معاوية إلى العراق لأخذ البيعة لنفسه من الحسن بن علي، واللفظ له. مناقب آل أبي طالب لابن شهر آشوب ج: ۳ ص: ١٩٧. بحار الأنوار ج: ٤٤ ص: ٥٧. شرح نهج البلاغة ج: ١٦ ص: ١٥ .

[5] الأخبار الطوال ص: ٢٢٠ عند ذكر زياد بن أبيه.

[6] أنساب الأشراف ج: ٣ ص: ۲۸۹ مبايعة الحسن لمعاوية.

[7] دلائل الإمامة ص: ١٦٦.

[8] الأخبار الطوال ص: ۲۲۱ عند ذكر زياد بن أبيه.

[9] تاریخ دمشق ج: ۱۳ ص: ۲۸۰ في ترجمة الحسن بن علي بن أبي طالب.

[10] الاحتجاج ج: ۲ ص: ۱۰. بحار الأنوارج: ٤٤ ص: ٢٠.

[11] کمال الدين وتمام النعمة ص: ٣١٦. الاحتجاج ج: ۲ ص: ٩. بحار الأنوار ج: ٥١ ص: ١٣٢.  إعلام الورى بأعلام الهدى ج: ۲ ص: ۲۳۰.

[12] الكافي ج: ٨ ص: ۳۳۰. بحار الأنوارج: ٤٤ ص: ٢٥. تفسير العياشي ج: ١ ص: ٢٥٨ .

[13] علل الشرائع ج: ١ ص: ۲۱۰-۲۱۱ باب: 159.