وحينئذٍ فخروج الإمام الحسن (صلوات الله عليه) من الصراع بصلح، يبتني على الشروط والعهد والميثاق، خير من خروجه بانكسار عسكري ينفرد به معاوية بالقرار. لوجوه:
الأول: أن الانكسار العسكري لا يحصل إلا بعد أن تأكل الحرب ذوي البصائر الذين هم حصيلة جهود أمير المؤمنين (صلوات الله عليه)، لقوة إصرارهم وتصميمهم على التضحية.
مع أن دعوة التشيع في أمسّ الحاجة لهم من أجل حملها، والتبليغ بها، والدعوة لها، لأنها كانت حديثة الظهور على الصعيد العام في المجتمع الإسلامي، وكان حاميها القوة بسبب تسنم أمير المؤمنين (صلوات الله عليه) للسلطة، من دون أن تتركز عقائدياً على الصعيد العام. ولم تأخذ موقعها المناسب في المسلمين، فتبقى مهزوزة في مهب الرياح بعد انحسار سلطان أهل البيت (صلوات الله عليهم).
وحينئذٍ يسهل على معاوية اكتساحها بعد انتصاره وقوة سلطانه كما حاول ذلك، وبذل غاية جهده، وإن لم يفلح نتيجة جهود هذه الجماعة، ووقوفها أمام مشروعه المذكور.
وهذا بخلاف الحال عند نهضة الإمام الحسين (صلوات الله عليه). حيث قد تركزت الدعوة عقائدياً، وتجذرت في المجتمع الإسلامي، فالتضحية به (عليه السلام) وبالنخبة الصالحة معه لم تؤثر على سير الدعوة، بل كانت نقطة تحول فيها، زادتها عزةً وبهاءً، وقوةً ورسوخاً، وظهوراً وانتشاراً، كما سبق.
ومعاوية وإن كان قد نقض العهد، وتتبع كثيراً من الشيعة بعد ذلك قتلاً وسجناً وتشريداً وتنكيلاً. إلا أن ذلك لا يبلغ محذور القضاء عليهم واستئصالهم في الحرب، أو بعد أن يتم له الانتصار..
أولاً: لأن معاوية لم يقض عليهم كلهم، بل بقي كثير منهم. وقد بذلوا جهودهم لصالح دعوة الحق في حياة معاوية وبعد موته.
وثانياً: لأنه لم يقض على كثير ممن قضى عليهم إلا بعد فترة استطاع فيها الضحية أن يؤدي وظيفته في التبليغ بالدعوة الشريفة وتوضيح معالمها، وطبع بصماتها في المجتمع. وكان لذلك أثره الحميد في بقاء دعوة التشيع، وتوارث الأجيال لها، واتساع رقعتها.
وثالثاً: لأن ظلامات الضحايا، ومواقفهم الصلبة في سبيل مبادئهم، صارت وسام شرف للتشيع، حيث اصطبغ بالدماء، وصار عنواناً لمقارعة الباطل، والصرخة في وجوه الظالمين، والتضحية من أجل المبادئ الحقة. وقد تحقق ذلك لأول مرة في داخل المجتمع الإسلامي.
نظير موقف المسلمين المستضعفين، الذين تعرضوا للأذى والتعذيب من المشركين في مبدأ ظهور الإسلام. مع فارق الكمّ والكيف.
كما صارت تلك الظلامات سمة عارٍ على الحكم الأموي، وأحد الأسباب المهمة في تشويه صورته، وزعزعة شرعيته. ولا سيما أنه يذكر بموقف الأمويين السيئ من الإسلام في مبدأ ظهوره، وأن القوم أبناء القوم.
وخصوصاً أن ذلك ابتنى على نقض العهد والاستهانة به، استهتاراً بالمبادئ والقيم. وقد صرح معاوية بذلك من أول الأمر، فقد قال في خطبته بالنخيلة عند دخوله الكوفة: ((ألا إن كل شيء أعطيته الحسن بن علي تحت قدمي هاتين لا أفي به))[1].
مع أن كثيراً من أولئك الضحايا لهم أثرهم المحمود في الإسلام، ومكانتهم السامية في نفوس المسلمين. وقد هزّ مقتل حجر بن عدي وأصحابه المجتمع الإسلامي، وهو أحد أحداث معاوية وموبقاته المذكورة، فكيف صارت نظرة المسلمين لمعاوية بسبب ما سبقه ولحقه من جرائمه وتعدياته الكثيرة؟!.
الثاني: أن قتل من يقتل من الشيعة في الحرب أمر تقتضيه طبيعة الحرب لا يعد بنظر جمهور الناس جريمة من معاوية.
بل حتى قتلهم بعد حصول الانكسار العسكري. لأن المحاربين يكونون أسرى لا يستنكر من المنتصر قتلهم في تلك العصور.
ولذا عدّ عفو النبي (صلى الله عليه وآله) عن المشركين بعد فتح مكة، وعفو أمير المؤمنين (صلوات الله عليه) عن المقاتلين بعد حرب الجمل، تفضلاً منهما.
أما قتل الإمام الحسن (صلوات الله عليه) وأهل بيته وشيعته بعد الموادعة وأخذ العهود والمواثيق فهو من أعظم الجرائم الإنسانية والمستنكرات بنظر الخاصة والعامة.
وبذلك استطاع الإمام الحسن (عليه السلام) أن يعصم دمه الزكي ودماء أهل بيته وشيعته، ويحفظ لهم حرمتهم، ويجعل قتل من قتل منهم، والاعتداء على الباقين بوجوه أخر، جرائم مستنكرة دينياً وإنسانياً تشوه صورة الحكم الأموي، وسبباً للتشنيع عليه والتنفير منه، وهو من أهم المكاسب في الصراع المبدئي.
الثالث: أن معاوية ليس كيزيد في الطيش والعنجهية، بل يختلف عنه بالحنكة وبُعد النظر. والظاهر أن ذلك يمنعه من قتل الإمام الحسن (صلوات الله عليه) وأهل بيته لو لم يقتلوا في المعركة، لما لهم من المقام الديني الرفيع والمكانة السامية في نفوس المسلمين، فلا يثير على نفسه غضب المسلمين بقتلهم، بل يستبقيهم، ليظهر بمظهر الحليم المتفضل بعفوه بعد المقدرة.
وفي ذلك أعظم الوهن عليهم، وعلى دعوتهم الشريفة. كما يكون حاجزاً لهم عن الإنكار عليه في ممارساته الإجرامية ضد الدين والمسلمين، حيث يكون بنظر عامة الناس من الردّ على الإحسان بالإساءة.
ولا أقل من أن يستغل معاوية ذلك ضدهم ويوظف قدراته التثقيفية والإعلامية للتهريج عليهم به، وتشويه صورتهم، من أجل أن يستغفل الناس ويشغلهم به عن التوجه الجرائمه ونقدها.
[1] مقاتل الطالبيين ص: ٤٥ في ترجمة الحسن بن علي بن أبي طالب (عليه السلام)، واللفظ له. شرح نهج البلاغة ج: ١٦ ص: ٤٦. أنساب الأشراف ج: ۳ ص: ۲۹۱ أمر الحسن بن علي بن أبي طالب (عليه السلام).