الهدف الأول للإمام الحسين (عليه السلام)

فإنه (صلوات الله عليه) مهما تمتع به من مؤهلات ومثالية، هي مدعاة للفخر والاعتزاز، ودليل على سمو الذات - كإباء الضيم، وقوة الإرادة، ووحدة الموقف، والشجاعة والصبر، والسخاء، والشرف، وغير ذلك - فهو فوق كل ذلك عبد الله عز وجل، فانٍ في ذاته تعالى، وصاحب رسالة قد حمله الله سبحانه إياها، وائتمنه عليها.

وقد تحمل (عليه السلام) المسؤولية حفظها ورعايتها وخدمتها. فيلزمه النظر فيما يصلحها، وبذل كل إمكانياته ومؤهلاته في سبيل ذلك. ولها الأولوية عنده على كل شيء.

ولذا نرى ذلك الشخص الأبي، والذي وقف من يزيد ذلك الموقف الصلب - مع علمه بأنه يؤدي إلى تلك التضحيات الجسيمة - قد صبر عشرين عاماً على مضض، ولم يحرك ساكناً مع معاوية، مع أنه قد نقض العهد، وتجاوز الحدود، وانتهك حرمته (عليه السلام)، وحرمة أهل بيته وشيعته، وحرمة الدين الذي كان (صلوات الله عليه) مسؤولاً عنه وعن رعايته.

كل ذلك لأن مصلحة دين الإسلام العظيم الذي كان الإمام الحسين (صلوات الله عليه) مسؤولاً عنه قد فرضت عليه في كل ظرف الموقف المناسب له مهما كلفه من متاعب ومصائب ومآسٍ وفجائع.

فنحن نقدس الإمام الحسين (صلوات الله عليه) ونشيد بموقفه في حفظ الدين قبل أن نشيد بإبائه للضيم وشجاعته وصبره وصلابة موقفه وتضحيته الكبرى نتيجة ذلك. بل لا نشيد بهذه الأمور منه (عليه السلام) كإمام إلا من أجل أنها صارت وسيلة لخدمة قضيته، وأداء منه لأمانته إزاء الدين، التي تحملها (عليه السلام) بإخلاص.

وهكذا الحال في جميع الأئمة من أهل البيت (صلوات الله عليهم)، وإن اختلفت المواقف، تبعاً لاختلاف الظروف. فمواقفهم جميعاً (صلوات الله عليهم) ليست كيفية، ولا مزاجية، ولا انفعالية، بل هي مواقف حكيمة - بتسديد من الله عز وجل - لخدمة القضية الكبرى، وقياماً بمقتضى الأمانة التي حُمّلوها إزاء الدين، قد يظهر لنا وجه الحكمة في بعضها، وقد يخفى علينا في بعضها.

ونعود للحديث عما كسبه الدين الحنيف من نهضة الإمام الحسين (صلوات الله عليه). فنقول:

بعدما سبق من أن نهضة الإمام الحسين (صلوات الله عليه) كانت بأمر من الله تعالى، وبتسديد منه، فلابد أن يكون الهدف منها مصلحة للدين - الذي هو أهم شيء عند الله عز وجل - تناسب حجم التضحية.

ومن ثم كان ذلك هو المتسالم عليه عند شيعة أهل البيت (أعز الله دعوتهم) ، حتى قال شاعرهم بعد أن تعرض لتحلل يزيد واستهتاره:

وأصبح الدين منه يشتكي سقماً                    وما إلى أحد غير الحسين شكا

فما رأى السبط للدين الحنيف شفاً               إلا إذا دمه في نصره سفكا

وما رأينا عليلاً لا شفاء له                             إلا بنفس مداويه إذا هلكا

بقتله فاح للإسلام نشر هدى                       فكلما ذكرته المسلمون ذكا

وقد تضمنت زياراته (صلوات الله عليه، وزيارات أصحابه (عليهم السلام) معه التي وردت عن الأئمة (صلوات الله عليهم) ما يناسب ذلك، حيث تكرر فيها التعبير بأنهم أنصار الله عز وجل وأنصار دينه ورسوله. ووضوح ذلك يغني عن إطالة الكلام فيه.

والذي يهمنا هنا هو التعرف على طبيعة الخدمة التي أداها الإمام الحسين (صلوات الله عليه) للدين الحنيف، وتشخيص الخطر الذي دفعه (عليه السلام) عنه بنهضته المباركة وتضحياته الجسيمة.

فإن من الظاهر أن النهضة المباركة لم تمنع من استمرار العمل على نظام ولاية العهد في الخلافة من دون مراعاة أهلية المعهود له، واستمر ما سنّه معاوية في دول الإسلام المتعاقبة حتى تمّ إلغاء الخلافة في العصور القريبة.

وإذا كان كثير من المسلمين قد استنكروا على معاوية - في وقته - فتح هذا الباب، فإنهم قد سكتوا عمن بعده ، وتعاملوا مع النظام المذكور كأمر واقع. بل أقرّ فقهاء الجمهور الخلافة المبتنية عليه، كما أقروا خلافة الأولين.

كما أن النهضة الشريفة قد جرّأت الأمويين على الدماء، كما توقع الإمام الحسين (عليه السلام) نفسه وبعض من نصحه بعدم الخروج، على ما تقدم[1]. وجرى على ذلك من بعدهم من الحكام في الدول المتعاقبة.

ومن الظاهر أيضاً أن النهضة الشريفة لم تخفف من غلواء السلطات المتعاقبة باسم الإسلام في الظلم والطغيان، والأثرة والتعدي، وانتهاك الحرمات العظام، والخروج عن أحكام الله عز وجل في مختلف المجالات.

وكذلك لم تمنع هذه النهضة من اختلاف المسلمين وتفرقهم وتناحرهم وانتهاكهم للحرمات وتدهور أوضاعهم وتسافلها، حتى انتهى بهم الأمر على ما هم عليه اليوم من الوهن والهوان.

كما أن من القريب جداً أنه لو ابتلي المسلمون بعد ذلك بمثل واقعة الطف في الظروف والمقارنات وانتهاك الحرمات لم يخرجوا منها بأحسن مما خرجوا في الواقعة المذكورة، بل قد يزيدون عليه إجراماً وبشاعة.

بل تسببت فاجعة الطف التي ختمت بها هذه النهضة عن ردود فعل ومضاعفات زادت في عمق الخلاف بين شيعة أهل البيت وكثير من الجمهور، وأريقت بسببها أنهار من الدماء، وانتهكت كثير من الحرمات.

وإلى ذلك يشير زهير بن القين (رضي الله عنه) في خطبته قبيل المعركة، حيث قال: ((يا أهل الكوفة نذارِ لكم من عذاب الله نذارِ. إن حقاً على المسلم نصيحة أخيه المسلم. ونحن حتى الآن أخوة، وعلى دين واحد وملة واحدة، ما لم يقع بيننا وبينكم السيف، وأنتم للنصيحة منّا أهل. فإذا وقع السيف انقطعت العصمة، وكنّا أمة وأنتم أمة ...)).[2].

كما أن هذه النهضة لم تقف حاجزاً دون تدهور المجتمع الإسلامي دينياً وخلقياً، بشرب الخمور، وظهور الفجور، واستعمال الملاهي، وأكل الحرام والجرأة على الدماء... إلى غير ذلك.

وعلى ذلك لابد من كون المكاسب الشريفة التي حصل عليها الدين الحنيف بسبب هذه النهضة العظيمة أموراً لا تتنافى مع كل ذلك. بل هي من الأهمية بحيث تناسب حجم التضحية، وتهون معها هذه الأمور. وتأتي محاولتنا هذه للتعرف على تلك المكاسب وتقييمها.

والناظر في تراث أهل البيت (صلوات الله عليهم) يجد منهم التركيز على رفعة مقام الإمام الحسين (صلوات الله عليه)، وعلى شدّة ظلامته، وفداحة المصاب به، وإبراز الجوانب العاطفية في الواقعة. وعلى عظم الجريمة في نفسها، وشدة النكير على القائمين بها، وكل من له دخل فيها من قريب أو بعيد، وخبثهم وسوء منقلبهم ونحو ذلك، مما يرجع إلى الإنكار عليهم ومحاولة التنفير منهم.

كل ذلك مع التأكيد المكثف على أهمية إحياء الفاجعة، وتحري المناسبات للتذكير بها بمختلف الأساليب. من دون تركيز على الجهة التي نحن بصددها.

غاية الأمر أنه تقدم عن الإمام الحسين ( صلوات الله عليه) ما يدل على أن نتيجة نهضته وشهادته هي الفتح[3]، كما تقدم عن الإمام زين العابدين (صلوات الله عليه) ما يدل على أن بقاء الصلاة شاهد على انتصار الإمام الحسين (عليه الصلاة والسلام)[4] من دون أن يوضحا (عليهما السلام) منشأ الفتح والشهادة المذكورين.

 


[1] تقدمت مصادره في الفصل الأول عند الكلام في أبعاد الفاجعة وعمقها، وأن الإمام الحسين (عليه السلام) هو الرجل الأول في المسلمين.

[2] تاريخ الطبري ج: ٤ ص: ٣٢٣-٣٢٤ أحداث سنة إحدى وستين من الهجرة، واللفظ له. الكامل في التاريخ ج: ٤ ص: ٦٣ أحداث سنة إحدى وستين من الهجرة: ذكر مقتل الحسين (رضي الله عنه). البداية والنهاية ج: ٨ ص: ١٩٤ أحداث سنة إحدى وستين من الهجرة صفة مقتله مأخوذة من كلام أئمة الشأن، وغيرها من المصادر.

[3] تقدمت مصادره عند الكلام في ثمرات الفاجعة في أواخر المقدمة.

[4] تقدمت مصادره عند الكلام في ثمرات الفاجعة في أواخر المقدمة.