دفع الدعوى المذكورة

لكن لا مجال للبناء على ذلك...

أولاً: لأن فوائد هذه الأمور لا تختص بالصراع مع الظالمين والجهاد في وجه الطغيان، بل لها فوائد أخرى مهمة جداً سبق التعرض لها في المطلب الثاني عند التعرض لما كسبه التشيع من فاجعة الطف.

والأهم من الكل حثّ الشارع الأقدس عليها بوجه مؤكد، وما أعدّه من الأجر العظيم والثواب الجزيل لمن يقوم بها. من دون أن يتضمن التقييد بزمان خاص أو حال خاص. كما هو الحال في الحج والعمرة وغيرهما من الواجبات والمستحبات الشرعية. فالتقييد المذكور تخرص في تحريف الحكم الشرعي.

وثانياً: لأن الشيعة حينما بدأوا بهذه الممارسات - بدفع من الأئمة (صلوات الله عليهم) - لم يكونوا في مقام مواجهة الطغاة ومقارعتهم بها، بل قاموا بها بصورة فردية سرية خوفاً من الظالمين، ولم يكن الدافع لهم إلا الأخذ بتوجيهات أهل البيت (صلوات الله عليهم)، والسير على تعاليمهم، وتأكيد الولاء لهم، وأداء حقهم.

وخاصةً الإمام الحسين (عليه السلام) الذي يتميز بموقع عاطفي عميق في نفوس الشيعة، نتيجة فاجعة الطف بأبعادها المأساوية المثيرة.

غاية الأمر أن ظهور قيام الشيعة بهذه الممارسات، وإصرارهم عليها تدريجاً، أثار حفيظة الظالمين، فجدوا في منعها والتنكيل بالقائمين بها، وبدأ الصراع بين الطرفين نتيجة ذلك.

فالصراع مع الطغاة ومقارعتهم أمر طارئ على هذه الممارسات، من دون أن يكون مأخوذاً في صميمها، ولا سبباً للحث عليها، أو شرطاً فيه.

وثالثاً: لأن كثيراً من هذه الممارسات التي ورد الحث عليها، والوعد بالأجر والثواب جزاءً لها، تبتني على التخفي والتستر من دون أن يكون لها مظهر يثير الطغاة ويزعجهم، مثل ما تضمنته رواية مسمع كردين الآتية في الأمر الثامن، ونحوها غيرها، وما ورد مستفيضاً في زيارة من بعدت شقته، ففي حديث طويل لسدير:

((قال أبو عبد الله (عليه السلام): يا سدير وما عليك أن تزور قبر الحسين (عليه السلام) في كل جمعة خمس مرات، وفي كل يوم مرة. قلت: جعلت فداك إن بيننا وبينه فراسخ كثيرة. فقال: تصعد فوق سطحك، ثم تلتفت يمنة ويسرة، ثم ترفع رأسك إلى السماء، ثم تتحرى نحو قبر الحسين (عليه السلام)، ثم تقول: السلام عليك يا أبا عبد الله، السلام عليك ورحمة الله وبركاته. يكتب لك زورة. والزورة حجة وعمرة. قال سدير: فربما فعلته في النهار [الشهر] أكثر من عشرين مرة))[1]. وورد نحو ذلك في زيارة بقية المعصومين (صلوات الله عليهم).

ومن الظاهر أن مثل هذه الزيارة لا ظهور لها، ولا مظهر فيها لمقارعة الطغاة والصراع مع الظالمين، والجهاد في سبيل الله تعالى، بل تتمحض في كونها مظهراً للولاء، وسبباً لتأكيد الانشداد لأهل البيت (عليهم السلام).

وإذا كانت مثل هذه الزيارة الخفيفة المؤونة تعدل حجة وعمرة فكيف يكون حال زيارة القاصد من مسافة بعيدة، والذي يبذل جهداً بدنياً أو مالياً مكثفاً في سبيل الوصول للقبر الشريف وأداء حق المزور(عليه السلام)؟.

وذلك كله وغيره يشهد بأن تشريع هذه الممارسات وترتب الثواب العظيم عليها ليس من أجل الجهاد ومقارعة الظلم والطغيان، بل لكونها مظهراً للولاء لأهل البيت (صلوات الله عليهم)، وسبباً للانشداد لهم، وأداءً لعظيم حقهم، وغير ذلك من الفوائد المتقدمة.

غاية الأمر أن ذلك قد يثير الطغاة والظالمين، إما لعدائهم لأهل البيت (صلوات الله عليهم)، أو لعدائهم للدين عموماً، أو للتشيع كعقيدة دينية، وشعورهم بأن هذه الممارسات سبب لتركيزه، وتقوية كيان الشيعة، وبعث الحيوية فيهم.

ورابعاً: لأن الصراع بها مع الظالمين، والجهاد والثبات عليها في وجه الطغاة عند منعهم يتوقف على الثبات عليها في حال الرخاء، والتمسك بها في حال الدعة.

لأنها بذلك تصبح جزءاً من كيان الأمة، ومن موروثاتها العريقة المقدسة، التي يصعب عليها تركها والتجرد منها.

ويكون منع الطغاة لها جرحاً لشعور الأمة وتعدياً عليها بنظر كل منصف، فيكون من حقها الطبيعي أن تثأر لكرامتها، وتبدأ ردود الفعل والصراع المرير بينها وبين الطغاة، لتثبيت شخصيتها، والثبات على عاداتها وموروثاتها، والحفاظ على مقدساتها.

أما إذا تهاونت بها في حالة الرخاء والدعة، ولم تؤكد عليها ولا تمسكت بها، فهي لا تستطيع القيام بها في حالة الشدة ومنع الطغاة لها..

أولاً: لعدم تفاعلها معها وعدم اعتزازها بها، بسبب ألفتها لتركها. حيث لا يكون لها من القوة والتركز في نفوسها ما يدفعها للقيام بها، والإصرار عليها، والصراع والتضحية في سبيلها.

وثانياً: لأن الحاكم لا يكون معتدياً في منعه لها، ليكون للأمة المبرر في مقاومته والصراع معه. بل تكون الأمة هي المتعدية والملومة في إقامتها والاهتمام بها، بعد أن لم تكن متمسكة بها من قبل.

حيث تتمحض النشاطات المذكورة في تحدي الحاكم، والشغب ضده، وتكون سبباً طبيعياً لإثارته، بنحو يكون له المبرر في منعها، والتنكيل بمن يقوم بها، وقمعه وإنزال عقابه به، وقسوته معه وتخسر الأمة أخيراً الصفقة في الصراع. وهذا أمر حقيق بالتأمل والتدبر. والله سبحانه من وراء القصد. وهو المسدد.

 


[1] كامل الزيارات ص: ٤٨٠-٤٨١، واللفظ له. الكافي ج: ٤ ص: ٥٨٩.