الكلام في تطوير طرق إحياء المناسبات

الأمر الثالث: قد يظن الظان أن تطور الأوضاع في العالم المعاصر يلزم بتطوير وسائل الدعوة للمبدأ وكيفية إحياء هذه المناسبات، وتبديلها بما يتلاءم مع واقع العصر وينسجم معه.

لكننا في الوقت الذي نحبذ فيه إيجاد وسائل تناسب التطور المذكور، نرى أن ذلك يجب أن يكون مصاحباً لهذه الشعائر بواقعها المعهود المألوف، لا بدلاً عنها.

فإن هذه الشعائر والممارسات حينما وجدت في غابر الزمان وجدت غريبة عن الواقع الذي قامت فيه حينئذ، وتعرضت لأقسى أنواع المقاومة والتشنيع والتهريج، كما يشير إليه ما سبق في دعاء الإمام الصادق (عليه السلام) وغيره.

لكنها ثبتت وفرضت نفسها متحدية ذلك الواقع، وحققت أهدافها على أفضل وجوهها وأكملها. وكما لم تمنعها غرابتها من ذلك فيما مضى، فهي لا تمنعها منه في الوقت الحاضر، بتسديد الله عز وجل ورعايته.

ولا سيما أن التطوير والتبديل المذكور كثيراً ما لا يتناسب مع واقع الجمهور ومداركه وأحاسيسه، فلا يتفاعل به، ولا يتجاوب معه، فلا يفي بالغرض، كما سبق التعرض له في الأمر الأول.

والعالم مليء بالممارسات والنشاطات التي تمتاز بها بعض الفئات والمجتمعات، وهي غريبة عن الآخرين، من دون أن يمنعها ذلك من القيام

بها والاستمرار عليها. كما لا تكون سبباً للتهريج والتشنيع على من يقوم بها. فلماذا الخوف من التهريج والتشنيع هنا؟!.

والظاهر أن من أهم أسباب التهريج على من يقوم بهذه الممارسات هو شعور أعداء التشيع بالمكاسب العظيمة التي حصل عليها التشيع بسببها، على ما ذكرناه آنفاً.

ومن هنا لا موجب للشعور بالضعف، ومحاولة التراجع، المجرد كون الممارسات المذكورة غير مألوفة للآخرين، أو مورداً لاستغرابهم، أو استغلال الأعداء لذلك من أجل التهريج والتشنيع عليهم.

مضافاً إلى أمرين:

أولهما: أن تهيّب نقد الآخرين والاهتمام بإرضائهم تجعل الإنسان - من حيث يشعر أو لا يشعر - يضخم التهريج والتشنيع، ويهونهما، ويحيطهما بهالة من الأوهام والمبالغات. ويتخيل كثيراً من ردود الفعل السيئة والسلبيات المترتبة عليها، من دون أن يكون لشيء من ذلك وجود على أرض الواقع، بل هي (كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاء حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ)[1].

ولنا في التجربة الحاضرة أعظم شاهد على ذلك. فإن انفتاح العالم على التشيع وعلى هذه الممارسات في بلادنا بدأ بعد الحرب العالمية الأولى، حيث ارتفع حاجز التقية نسبياً، وبدأ العالم يتصل بعضه ببعض، وأخذت هذه الممارسات الصارخة تظهر للآخرين.

وقد بدأت سهام النقد والاستنكار لها في موجة (العلمانية الثقافية) التي حاولت اكتساح الدين عموماً، والاستهانة به وبممارساته كافة. وقد استشعر كثير ممن ينتسب للدين بالضعف والوهن أمام ذلك.

وحسب بعضهم أن هذه الممارسات هي سبب الحملة المذكورة، أو من أسبابها، فارتفعت أصواتهم باستنكارها باسم الإصلاح أملاً في رضا الآخرين، غفلة عن حقيقة الحال. لكنه لم يفلح في منعها بسبب إصرار الجماهير غير المحدود عليها.

حتى إذا انحسرت تلك الموجة، واسترجع الدين موقعه في النفوس، وبدأ احترامه عالمياً، لم نسمع صيحات الاستنكار هذه الممارسات إلا من قِبَل أعداء أهل البيت (صلوات الله عليهم)، ومن بعض من هو مغرم بالتجديد والتطوير حباً له، أو حذراً من نقد الآخرين.

ولذا لم توجب هذه الممارسات تأخر التشيع عالمياً في هذه المدة الطويلة، بل هو في تقدم مستمر رغم إغراق الجمهور الشيعي في الممارسات المذكورة وظهورها للعالم أجمع.

وها نحن نرى أن اهتمام الإعلام العالمي هذه الأيام إنما كان بتغطية ممارسات الشيعة في أنحاء المعمورة في إحياء ذكرى فاجعة الطف وعرضها، وبیان تعاطف الآخرين معها. من دون أن يركز على نقد هذه الممارسات والتشنيع عليها من قبل أعداء أهل البيت (عليهم السلام) وخصوم شيعتهم، أو غيرهم، بنحو يوحي بعزلة هؤلاء الناقدين والمهرجين، ويشعر بخيبتهم.

ثانيهما: أن التهريج والتشنيع حيث كان المقصود منه تراجع الشيعة عن هذه الممارسات، فإذا لم يجد أذناً صاغية خفت تدريجاً، لشعور أصحابه بالخيبة والفشل. واضطروا للتعامل مع هذه الممارسات كما يتعاملون مع سائر الأمور المفروضة على أرض الواقع مما لا يعجبهم.

أما إذا وجد أذناً صاغية وبدأ الشيعة يتراجعون عن بعض هذه الممارسات من أجله، فإن القائمين بالتهريج والتشنيع يشعرون بنجاح مشروعهم، فيزيدون فيهما من أجل تراجع الشيعة عما تبقى من هذه الممارسات، حتى تنسى هذه الفاجعة، ويخسر الشيعة أقوى دعامة لهم في نشر دعوتهم وإسماع صوتهم وبيان ظلامتهم وامتداد وجودهم، وهو الذي يريده أعداؤهم على امتداد التاريخ.

 


[1] سورة النور الآية: ٣٩.