رابعها: الإيمان بالغيب والتسليم به ولو نسبياً بما ظهر منه (صلى الله عليه وآله) ومن أهل بيته (عليهم السلام) من بعده ببركته من كرامات ومعاجز، وإخبارات غيبية ظهر صدقها في المستقبل. مع أن الإسلام قد بدأ وانبثقت دعوته في مجتمع مادي صرف معزول عن المجتمعات الدينية، ولم يتأثر بثقافاتها المبتنية على الإيمان بالغيب.
ومن الظاهر أن ذلك يبتني في مثل هذه البيئة المادية المعزولة عن مراكز الثقافة الدينية على التدرج مرحلة مرحلة. وقد بدا منه (صلى الله عليه وآله) ذلك مع المشركين، ثم تركز تدريجياً في نفوس المسلمين بما ظهر منه (صلى الله عليه وآله) أولاً، ثم من أمير المؤمنين (عليه السلام) في عهد خلافته الظاهرة، وتركز تدريجاً أيضاً في نفوس شيعة أهل البيت (صلوات الله عليهم).
حتى انتهى الأمر بهم إلى تقبل إمامة أبي جعفر محمد الجواد وابنه أبي الحسن علي الهادي (عليهما السلام) وهما لم يبلغا السنة الثامنة من العمر.
ومن البعيد جداً تيسر ذلك للإمامين الحسن والحسين (عليهما السلام) لو قدّر الأمير المؤمنين (صوات الله عليه) أن يقتل بعد النبي (صلى الله عليه وآله) بزمن قليل، لا لقصور فيهما، بل لعدم تهيؤ البيئة التي كانا فيها لتقبل ذلك واستيعابه.
بل يبدو أن الأئمة المتأخرين (عليهم السلام) قد فرضوا على غير شيعتهم ذلك نسبياً، كما يظهر لمن يتقصى أخبارهم وسيرتهم.
ومن الطريف ما روي عن عمر بن الفرج الرخجي، وهو من النواصب المعروفين بعداء أهل البيت (عليهم السلام). قال: ((قلت لأبي جعفر [يعني: الإمام الجواد(عليه السلام)]: إن شيعتك تدعي أنك تعلم كل ماء في دجلة ووزنه. وكنا على شاطئ دجلة. فقال (عليه السلام) لي: يقدر الله تعالى أن يفوّض علم ذلك إلى بعوضة من خلقه أم لا؟ قلت: نعم يقدر فقال: أنا أكرم على الله تعالى من بعوضة ومن أكثر خلقه))[1].
ثم انتهى الأمر بهذا التدرج إلى تقبل الغيبة - الصغرى، ثم الكبرى - المبني على الإيمان المطلق بالغيب بمرتبة عالية، كما هو ظاهر.
بل ما ظهر بعد ذلك - على طول الزمن وتعاقب الأجيال - من المعاجز والكرامات الكثيرة بالتوسل بهم (عليهم السلام) - وحتى بذريتهم وخواص أصحابهم - قد فُرض على أرض الواقع كحقيقة ثابتة يقرّ بها الموافق والمخالف من المسلمين، بل حتى من غير المسلمين وإن كانوا ملحدين.
وكثيراً ما يلجؤون إليهم في ذلك إذا انقطعت آمالهم، وأغلقت في وجوههم الطرق المادية. ووضوح ذلك يغني عن إطالة الكلام فيه.
وعلى كل حال فقد حقق النبي (صلى الله عليه وآله) بهذه الأمور الأربعة نقلة هامة مرحلية لصالح الإسلام عموماً، والإسلام الحق خصوصاً، وأحكم الأسس التي تبتني عليها دعوته.
وبذلك تيسر لأئمة أهل البيت (صلوات الله عليهم) وخاصة الصحابة والتابعين وتابعيهم في الأجيال المتعاقبة القيام بوظيفتهم في مجال التصحيح وإيضاح الحقائق التي سبَّب انحراف السلطة تشويهها، أو التعتيم عليها وإغفال المجتمع الإسلامي عنها.
وذلك في الحقيقة إنجاز له أهميته الكبرى لصالح الإسلام الحق، بعد أن لم تسمح الظروف - نتيجة تعقدات المجتمع الإسلامي الذي بذل رسول الله (صلى الله عليه وآله) الجهد الكثير في قيامه - بفرضه على أرض الواقع وتطبيقه بكماله من أول الأمر.