وأعانه على ذلك واقع القرآن المجيد، حيث لم يتضمن التصريح بالعقائد الحقة - كإمامة أمير المؤمنين وولده (صلوات الله عليهم) بأسمائهم وغيرها - بنحو يفهمه بوضوح عامة المسلمين والسواد الأعظم ممن لم يعاشر النبي (صلى الله عليه وآله) ويطلع على ظروف نزول القرآن والقرائن الخارجية المحتف بها. ليكون ذلك مثيراً للمنافقين وذوي المصالح المضادة للحقيقة، ومحفزاً لهم على إبعاد القرآن عن جمهور المسلمين، والتحجير عليه بتعيين أشخاص خاصين لإقرائه، ومنعهم من إقراء ما ينافي أهدافهم أو غير ذلك من طرق التحجير، كما حصل منهم مع السنة الشريفة.
وإنما تضمن القرآن ما كان من تلك الحقائق مخالفاً لمصالحهم وأهدافهم بوجه يغفل عنه من تقدم. ويحتاج توضيحه لهم للسنة الشريفة أو لمتابعة التاريخ والاستعانة به، أو لقرائن يدركها الخاصة.
بل استفادت السلطة بعد النبي (صلى الله عليه وآله) من قراءة القرآن الكريم لملء الفراغ الذي تسبب عن منعها من نشر الثقافة الدينية عن طريق نشر السنة النبوية الشريفة وبيان سيرة النبي (صلى الله عليه وآله) العطرة.
فإن من الطبيعي أن الجماهير الكبيرة التي دخلت في الإسلام بعد الفتوح الكثيرة تتطلع للثقافة الدينية التي يتضمنها الدين الجديد، وتحاول التعرف عليها. بل يحاول كثير منهم الاستزادة منها. وقراءة القرآن الشريف تملأ هذا الفراغ نسبياً.
وكشاهد على ذلك ما ذكره يوسف بن موسى الحنفي، قال في حديث له: ((ويؤيده ما روي عن قرظة بن كعب، قال: خرجنا نريد العراق، فمشى معنا عمر بن الخطاب إلى جدار فتوضاً، فقال: أتدرون لِمَ مشيت معكم؟ قالوا: نعم، نحن أصحاب رسول الله ﷺ مشيت معنا. قال: إنكم تأتون أهل قرية لهم دوي بالقرآن كدوي النحل، فلا تصدوهم بالأحاديث، فتشغلوهم.
جردوا القرآن، وأقلوا الرواية عن رسول الله ﷺ. امضوا وأنا شريككم. فلما قدم قرظة قالوا: حدثنا. قال: نهانا عمر. وفي رواية قال قرظة: لا أحدث حديثاً عن رسول الله أبداً...))[1].
نعم منعت السلطة بشدة من تفسير القرآن، كما تضمنته قصة صبيغ التي تقدمت عند الكلام في التحجير على السنة النبوية في أوائل المبحث الأول.
وهذا يمجموعه وإن كان كارثة كبرى للثقافة الإسلامية، إلا أنه نفع كثيراً في الحفاظ على جهد النبي (صلى الله عليه وآله) في حفظ القرآن المجيد من الضياع والاختلاف والتحريف والتشويه.
وعلى كل حال لم يفارق النبي (صلى الله عليه وآله) المسلمين وينتقل للرفيق الأعلى إلا والمسلمون مؤمنون بالقرآن المجيد بأجمعه متفقون عليه بمادته وهيئته، وعلى وجوب العمل به والرجوع إليه في أمر دينهم، وصحة الاحتجاج به في ذلك في العقائد والأحكام.
وبذلك بقي القرآن بأسلوبه الإعجازي وبلاغته الفريدة حجة لنبوة النبي (صلى الله عليه وآله) ودليلاً على صدقه. كما بقي مرجعاً لأمته من بعده في أصول الدين العقائدية وأحكامه العملية، لا يختلفون في وجوب اتباعه، وإن اختلفوا في تفسيره وتأويله.
وقد أكد القرآن الكريم بوجه مكثف على عصمة النبي (صلى الله عليه وآله) ووجوب طاعته واتباع سنته في قوله وعمله، بنحو يفهمه الكل ويستوضحونه من دون مؤنة، بحيث لا مجال للتشكيك فيه، فضلاً عن إنكاره مهما امتد الزمن وتعاقبت الأجيال.
وكان لذلك أعظم الأثر في وضوح الحقيقة الدينية وقيام الحجة عليها من دون تشويه ولا تحريف، رغم الفتن المتابعة، والأعاصير المضادة، والألغام الكثيرة التي وضعت في طريقها على طول المدة وتعاقب الأجيال.
كما تميز بذلك الإسلام عن بقية الأديان، حيث بقي كتابه الكريم مصدراً هاماً للثقافة الإلهية السليمة، والتي هي سبب للفخر والاعتزاز.
وانسد الطريق على من يحاول تحريفه بلغته العربية أو بترجمته لغيرها، حيث يظهر حاله سريعاً بسبب انتشار ما تسالم عليه المسلمون بمادته وهيئته المعروفة.
ولولا الجهود المكثفة التي قام بها النبي (صلى الله عليه وآله) في سبيل تعميم القرآن ونشره، حفظاً له من الضياع والاختلاف والتشويه لما حصل ذلك.
[1] المعتصر من المختصرج: ۲ ص: ۳۸۱ باب في حبس عمر مكثر الحديث، واللفظ له. تذكرة الحفاظ ج: 1 ص: ٧ في ترجمة عمر بن الخطاب المستدرك على الصحيحين ج:۱ ص: ۱۸۳ کتاب العلم.