الخامس: أن موقف النبي (صلى الله عليه وآله) هذا من المنافقين وضعاف الإيمان، من أجل المحافظة على تماسك المجتمع المسلم، مع التنبيه للخطأ والتبكيت عليه، يتناسب مع موقف القرآن المجيد منهم.
ففي وقعة أحد شدد الله عز وجل النكير عليهم في مخالفة أمر النبي (صلى الله عليه وآله) بلزوم موقعهم في الجبل رغبة في كسب الغنائم، ثم انهزامهم وتركهم النبي (صلى الله عليه وآله) في مواجهة جيش المشركين، ثم اهتمام طائفة منهم بعد رجوعهم بأنفسهم وظنهم بالله تعالى غير الحق ظن الجاهلية... إلى غير ذلك.
لكنه بعد ذلك صرح بالعفو عنهم، وكان ذلك محفزاً لهم على رجوعهم للتجمع عند النبي(صلى الله عليه وآله) ، وتناسي ما حصل على أرض الواقع.
بل ذكر غير واحد من المفسرين أنهم هم وحدهم المعنيون بقوله عز وجل: ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ)[1].
حتى إن الرازي ردّ الحديث المتضمن أن ممن شاورهم رسول الله (صلى الله عليه وآله) أبا بكر، بدعواه أنه لم يفر لتشمله الآية الشريفة[2].
وقال الرازي أيضاً في تفسير الآية الشريفة: ((واعلم أن القوم لما انهزموا عن النبي ﷺ يوم أحد ثم عادوا لم يخاطبهم الرسول ﷺ بالتغليظ والتشديد، وإنما خاطبهم بالكلام اللين. ثم إنه سبحانه وتعالى لما أرشدهم في الآيات المتقدمة إلى ما ينفعهم في معاشهم ومعادهم، وكان من جملة ذلك أن عفا عنهم، زاد في الفضل والإحسان، بأن مدح الرسول ﷺ على عفوه عنهم وتركه التغليظ عليهم، فقال: ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ..... ومن أنصف علم أن هذا ترتيبٌ حَسَنٌ في الكلام))[3]. وهذا يناسب حرص الله عز وجل على قيام مجتمع إسلامي موحّد مهما كان فيه من سلبيات.
ويظهر ذلك أيضاً من أمر الله تعالى المسلمين بالصدقة عند مناجاة النبي (صلى الله عليه وآله)، فلم يفعلوا إلا أمير المؤمنين (عليه السلام)، حيث تصدق وناجي النبي (صلى الله عليه وآله) عشر مرات.
فإنه تعالى أنّبهم ليشعرهم بضعف إيمانهم وبخلهم. ثم رفع ذلك عنهم، ورجع تجمعُهم عند رسول الله (صلى الله عليه وآله) إلى ما كان عليه، وكان ذلك مظهراً لتماسكهم كمجتمع مسلم مهما كان حاله.
كما أنَّه قال عز وجل: (لَئِن لَّمْ يَنتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا)[4]، ولم يفعل ما هددهم به مع تصاعد نشاطهم في أواخر حياة النبي(صلى الله عليه وآله)، كما قد يشير إليه قوله تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَيَتَنَاجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيَّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنفُسِهِمْ لَوْلَا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ)[5]. فلم يتخذ منهم الموقف الحاسم، بل اكتفى بتهديدهم بجهنم.
ولما نزل النبي (صلى الله عليه وآله) في بعض المنازل عند رجوعه من مكة بعد حجة الوداع أخذوا يتسللون ويعتزلون عنه ويتناجَون كما يريدون، حتى قال (صلى الله عليه وآله): ((أيها الناس إني قد كرهت تخلفكم وتنحيكم عني، حتى خُيّل إليّ أنه ليس شجرة أبغض إليكم من شجرة تليني))[6]... إلى غير ذلك. وقد ذكرنا بعضه في جواب السؤال الرابع من الجزء الثاني من كتابنا (في رحاب العقيدة).
ولا يظهر لنا وجه ذلك إلا المحافظة على تماسك المجتمع الإسلامي، والتغاضي عن السلبيات الكثيرة التي تعرض لها القرآن المجيد - في كثير من آياته - وأحاديث المعصومين (صلوات الله عليهم) والنصوص التاريخية.
[1] سورة آل عمران الآية: ١٥٩.
[2] تفسير الرازي ج: ٩ ص: ٦٧ في تفسير قوله تعالى: (فإذا عزمت فتوكل).
إلا أنه روى جمع من المفسرين والمؤرخين عن عائشة أنّ أباها كان إذا ذكر أُحُداً قال: ((كنت أول من فاءَ)) أي: رَجعَ بعد فراره. راجع: تفسير ابن كثير ج: ١ ص: ٤٢٥ في ذكر ما وقع في أحد. الطبقات الكبرى لابن سعد ج: ۳ ص: ۲۱۸ في ذكره لأخبار طلحة بن عبيد الله. تاريخ دمشق ج: ٢٥ ص: ٧٥ في ترجمته لطلحة بن عبيد الله، وغيرهان المصادر.
[3] تفسير الرازي ج: ٩ ص: ٦٠ في تفسير قوله تعالى: ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ).
[4] سورة الأحزاب الآية: ٦٠.
[5] سورة المجادلة الآية: ٨.
[6] تاریخ دمشق ج: ٤٢ ص: ٢٢٧ في ترجمة علي بن أبي طالب، واللفظ له. العمدة لابن بطريق ص: ۱۰۷. صحيح ابن حبان ج: ١ ص: ٤٤٤ باب فرض الإيمان. مسند أحمد ج: ٤ ص: ١٦ في حديث رفاعة بن عرابة الجهني. مجمع الزوائد ج: ۱ ص: ۲۰ كتاب الإيمان: باب فيمن شهد أن لا إله إلا الله، ج: ١٠ ص: ٤٠٨ كتاب أهل الجنة: باب فيمن يدخل الجنة بغير حساب. مسند الطيالسي ص: ۱۸۲ فيما رواء رفاعة بن عرابة الجهني. المعجم الكبير ج: ٥ ص: ٤٩ - ٥١ رفاعة بن عرابة الجهني عن رسول الله.