وقد سبق في أوائل المبحث الأول من كتابنا هذا - فيما من شأنه أن يترتب على انحراف مسار السلطة في الإسلام - تقييم أمير المؤمنين (عليه السلام) لواقع المجتمع الإسلامي وقوله: ((إن العرب كرهت أمر محمد (صلى الله عليه وآله) وحسدته على ما آتاه الله من فضله واستطالت أيامه، حتى قذفت زوجته ونفّرت به ناقته. مع عظيم إحسانه إليها، وجسيم مننه عندها. وأجمعت مذ كان حياً على صرف الأمر عن أهل بيته.
ولولا أن قريشاً جعلت اسمه ذريعة إلى الرئاسة وسلّماً إلى العز والإمرة، لما عبدَت الله يوماً واحداً، ولارتدّت في حافرتها، وعاد قارحها جذعاً وبازها بكراً.
ثم فتح الله عليها الفتوح، فأثرت بعد الفاقة، وتمولت بعد الجهد والمخمصة، فحسن في عيونها من الإسلام ما كان سمجاً، وثبت في قلوب كثير منها من الدين ما كان مضطرباً، وقالت: لولا أنه حق لما كان كذا...))[1].
ومن أجل ذلك اضطر (صلى الله عليه وآله) إلى الاقتصار على التبليغ بكل ما أمر بتبليغه إقامة للحجة، من دون إصرار على تنفيذه، لئلا يحمل المنافقين وضعاف الإيمان على الالتفاف عليه والإصرار على تكذيبه.
كما اضطر أيضاً إلى التغاضي عن كثير من تجاوزات المنافقين وضعيفي الإيمان الذين يشكلون الثقل الأكبر في ذلك المجتمع.
حتى إنه (صلى الله عليه وآله) منع من فضح الأشخاص الذين تآمروا عليه بشخصه الكريم، وأرادوا قتله (صلى الله عليه وآله) بتنفير ناقته، كما أشار إليه أمير المؤمنين (عليه السلام) في كلامه السابق، وذلك بدحرجة الدباب عليها في قضية العقبة المشهورة، لأن فضحهم يستلزم أخذ الموقف المناسب منهم بقتلهم، وقال: ((أكره أن تتحدث العرب بينها أن محمداً قاتل بقوم، حتى إذا أظهره الله بهم أقبل عليهم يقتلهم))[2].
كل ذلك لأن الإصرار منه (صلى الله عليه وآله) على تنفيذ ما بلّغ به يثيرهم، حتى قد يرتدون أو يشيعون التشكيك في عصمته. وقد انتهى الأمر بهم إلى أن رموه بالهجر في رزية الخميس المشهورة، فاضطر للتراجع عن إعلان ما أراد بيانه وتثبيته، واكتفى في إقامة الحجة بطلبه ذلك أول الأمر.
وبهذه المواقف اللينة استطاع (صلى الله عليه وآله) أن يحافظ على تماسك المجتمع الإسلامي من أجل أن يوصل ذلك المجتمع - مع ما فيه من السلبيات - دعوة الإسلام وصوته للعالم خارج الجزيرة العربية.