خشونته (عليه السلام) في ذات الله

ثانيها: ما عرف عن أمير المؤمنين (عليه السلام) من أنه خشن في ذات الله عز وجل، وأنه لا يهادن، ولا يحابي، ويتحرى الحق بحدوده، ولا يتجاوزه مهما كلفه ذلك.

ومن ذلك أنه لما رجع من اليمن بجيشه الذي معه، ليلتحق برسول الله (صلى الله عليه وآله) بمكة في حجة الوداع استخلف على جيشه رجلاً، وسبقهم إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) بمكة، وأخبره بما كان منه فسرّ (صلى الله عليه وآله) بذلك. ثم أمره بأن يعود إلى جيشه، فيعجل بهم ليجتمعوا معه (صلى الله عليه وآله) في مكة.

فلما عاد إليهم وجدهم قد لبسوا الحلل التي جاء بها إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) فأنكر ذلك على من استخلفه، وانتزعها منهم وشدها في الأعدال فاضطغنوا ذلك عليه.

فلما دخلوا مكة كثرت شكايتهم منه، فأمر رسول الله (صلى الله عليه وآله) من نادى في الناس: ((ارفعوا ألسنتكم عن علي بن أبي طالب، فإنه خشن في ذات الله عز وجل غير مداهن في دينه))[1]. بل حاله في ذلك من الوضوح بحيث لا ينبغي إطالة الكلام فيه.

ومن المعلوم أن ذلك مما يضيق به عامة الناس، فضلاً عن الخاصة والنخب التي ترى لأنفسها مزية تقتضي الإثرة والتفضيل على عادي الناس. وهي التي كانت فاعلة في تلك الفترة.

ثالثها: أن تقدم أمير المؤمنين (عليه السلام) وأهل بيته من بعده يبتني بمقتضى التشريع - الذي جهد النبي (صلى الله عليه وآله) في التبليغ به والتأكيد عليه - على الاصطفاء الإلهي، لتميزهم بمميزات ذاتية وفيض إلهي في العلم والخلق، يتفرع على تميز النبي (صلى الله عليه وآله) عن سائر الخلق.

فأمير المؤمنين (عليه السلام) من النبي (صلى الله عليه وآله) بمنزلة هارون من موسى، وهو أخوه ووصيه ووارث علمه وباب مدينة حكمته، وأهل بيته (عليهم السلام) جميعاً من شجرة رسول الله (صلى الله عليه وآله) ومن طينته، خلقهم الله عز وجل أنواراً محدقين بعرشه، وهم خيرة الله تعالى من خلقه، منّ على خلقه بهم، بهم يرزقون ويرحمون، وهم الشفعاء والوسائط بينه تعالى وبين خلقه... إلى غير ذلك مما استفاضت به نصوص الخاصة والعامة.

ويبدو ذلك من النبي (صلى الله عليه وآله) عملياً في مواقف، منها تخصيصهم بمباهلته معهم علماء نصاری نجران، ومنها حصره آية تطهير أهل البيت من الرجس بنفسه الشريفة وبهم.

وقد أشارت إليه الصديقة سيدة النساء فاطمة الزهراء (عليها السلام) بقولها في خطبتها الكبرى: ((وفهتم بكلمة الإخلاص في نفر من البيض الخماص))[2].

كما صرح به أمير المؤمنين (عليه السلام) بقوله في كتابه إلى معاوية: ((فدع عنك من مالت به الرمية، فإنا صنائع ربنا، والناس بعد صنائع لنا))[3].

والحديث في ذلك طويل لا تسعه هذه العجالة، ويسهل على كل باحث التوسع فيه بالرجوع للمصادر المتوفرة.

واستلام أهل البيت (عليهم السلام) السلطة بناء على هذه الثقافة سوف يؤدي إلى تركزها في نفوس المسلمين. وهو أمر لا تطيقه قريش. وإذا سكتت عنه أو أقرت به ـ على مضض - في حق النبي (صلى الله عليه وآله) لأنه فرض نفسه بالقوة والترغيب فهي لا تطيق الإقرار به لأهل بيته (عليهم السلام)، بنحو يؤكد دواعي منعهم من ذلك.

 


[1] الإرشاد في معرفة حجج الله على العباد ج: ۱ ص: ۱۷۲ - ۱۷۳ في الحديث عن حجة الوداع. وذكرت الواقعة بأنفاظ مقاربة في تاريخ الطبري ج: ٢ ص: ٤٠٢ في ذكر وقد بني عامر بن صعصعة. الكامل في التاريخ ج: ۲ ص: ٣٠١ في ذكر بعث رسول الله ﷺ أمراءه على الصدقات. البداية والنهاية ج: 6 ص: ۲۲۸ في آخر فصل من أخبار سنة ١٠. وغيرها من المصادر. واقتصر على الذيل المروي عن رسول الله ﷺ المتضمن لقوله: ((ارفعوا ألسنتكم عن علي بن أبي طالب فإنه خشن في ذات الله)) في المستدرك على الصحيحين ج: ٣ ص: ١٣٤ في النهي عن شكاية علي (عليه السلام). مسند أحمد ج: ٣ ص: ٨٦ في مسند أبي سعيد الخدري.

[2] راجع ملحق رقم (1).

[3] نهج البلاغة ج: ٣ ص: ٣٢.