ثم هو بعد ذلك العدو اللدود عند من أسلم بعد تلك الحروب من قريش، لكثرة من قتل منهم فيها ووترهم بهم. فهو عضيد النبي (صلى الله عليه وآله) من يومه الأول، ويده الباطشة وسيفه القاطع فيها بعد ذلك، خصوصاً في المواقع الحاسمة.
وهو (عليه السلام) الذي أفشل - بمقتضى الواقع المنظور لهم - مخططهم القتل النبي (صلى الله عليه وآله) والتخلص منه بمبيته (عليه السلام) على فراشه عند هجرته (صلى الله عليه وآله) للمدينة المنورة، التي كانت مفتاحاً لانتصاره (صلى الله عليه وآله) عليهم وكسر شوكتهم. ومن الطبيعي - مع كل ذلك - أن يسخطوا اتجاه الوحي الذي يجهد النبي (صلى الله عليه وآله) في تبليغه[1]، ويحاولوا الالتفاف عليه والتخلص منه.
ويزيد الواقع تعقيداً أمور:
أحدها: فارق السن، فإن أمير المؤمنين (صلوات الله عليه) كان في دور الشباب، ومن الصعب جداً تقدمه على من هو في طبقته، فضلاً عمن هو أسن منه من الكهول والشيوخ، في مجتمع قبلي لم يألف انحصار السلطة بعائلة خاصة والخضوع لها، وغض النظر عن مثل ذلك.
كما هو الحال في المجتمعات المتدينة أو المتحضرة التي تتقبل ذلك نتيجة نظام ديني أذعن له المجتمع تدريجاً واستحكم في نفوسهم، كما انتهى إليه الشيعة مع الأئمة (عليهم السلام)، أو نظام سلطوي فرض نفسه بالقوة، كما في الدول القائمة في تلك العصور، التي قد ينتهي بها الأمر إلى القبول بسلطة الصبيان والنساء من تلك العائلة، وإغفال مميزات غيرها.
ويناسب ذلك قول أمير المؤمنين (عليه السلام): ((إن الناس ينظرون إلى قريش وقريش تنظر إلى بيتها فتقول: إن وُلِّيَ عليكم بنو هاشم لم تخرج منهم أبداً، وإن كانت في غيرهم من قريش تداولتموها بينكم))[2].
وما نسب للمغيرة بن شعبة من قوله: ((أتريدون أن تنتظروا حبل الحبلة من أهل هذا البيت. وسعوها في قريش تتسع))[3].
[1] وقد حصل من الأنصار الذين أسلموا طوعاً، ورأوا الخير الكثير ببركة إسلامهم، نظير ذلك حين خصّ (صلى الله عليه وآله) المؤلفة من قريش بحصة كبيرة من غنائم حنين.
فعن أبي سعيد الخدري أنه قال: ((لما أعطى رسول الله ﷺ ما أعطى من تلك الغنائم في قريش وقبائل العرب ولم يعط الأنصار شيئاً وجدوا في أنفسهم، حتى قال قائلهم: لقي رسول الله قومه، فأخبر سعد بن عبادة رسول الله ﷺ بذلك، فقال له: فأين أنت يا سعد؟ قال: ما أنا إلا من قومي. قال: فاجمع قومك لي. فجمعهم، فأتاهم رسول الله...)) ثم ذكر حديثه العاطفي معهم بنحو أبكاهم حتى اخضلت لحاهم ورضوا. تاريخ الطبري ج: ٢ ص: ٣٦١ في ذكر غزوة رسول الله ﷺ هوازن بحنين. الكامل في التاريخ ج: ۲ ص: ٢٧١ في ذكر قسمة غنائم حنين. الدرر لابن عبد البر ص: ٢٣٥ في ذكر أخبار حنين وقسمة غنائمها.
وفي صحيح زرارة عن أبي جعفر(عليه السلام) قال بعد ذكر إعطاء رسول الله (صلى الله عليه وآله) الغنائم لرؤساء قريش وغيرهم ليتألفهم: ((فغضبت الأنصار، واجتمعت إلى سعد بن عبادة، فانطلق بهم إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) بالجعرانة، فقال: يا رسول الله أتأذن لي بالكلام؟ فقال: نعم. فقال: إن كان هذا الأمر من هذه الأموال التي قسمت بين قومك شيئاً أنزله الله رضينا، وإن كان غير ذلك لم نرض. قال زرارة: وسمعت أبا جعفر(عليه السلام) يقول: فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): يا معشر الأنصار، أكلكم على قول سيدكم سعد؟ قالوا: سيدنا الله ورسوله. ثم قالوا في الثالثة: نحن على مثل قوله ورأيه. قال زرارة: فسمعت أبا جعفر(عليه السلام) يقول: فحطّ الله نورهم، وفرض الله للمؤلفة قلوبهم سهماً في القرآن)). الكافي ج: ٢ ص: ٤١١ باب المؤلفة قلوبهم، حديث: ٢.
فإذا كان هذا موقف الأنصار من أجل الأموال، فكيف يكون موقف الحاسدين والموتورين القرشيين من العهد بالخلافة الأمير المؤمنين؟!.
كما أنه (صلى الله عليه وآله) قد عانى في المدينة قبل انتشار الإسلام مذ كان المجتمع الإسلامي صغيراً من إثارة الشقاق القبلي بين الأوس والخزرج. صحيح البخاري ج: ٤ ص: ١٥٢٠ كتاب المغازي: باب حديث الإفك. مجمع الزوائد ج: ٩ ص: ۲۳۸ کتاب المناقب: باب حديث الإفك. المعجم الكبير ج: ۲۳ ص: ۱۲۷ باب: عائشة بنت أبي بكر الصديق زوج رسول الله.
وكذلك بين الأنصار والمهاجرين من قريش. صحيح البخاري ج: ٦ ص: ٦٣ وما بعدها في تفسير سورة المنافقين. صحيح مسلم ج: ۸ ص: ۱۹ باب: نصر الأخ ظالماً أو مظلوماً. تاريخ الطبري ج: ٢ ص: ٢٦٠ وما بعدها في ذكر غزوة بني المصطلق، وغيرها من المصادر الكثيرة.
فكيف صار الحال بعد انتشار الإسلام وكثرة المنافقين وضعاف الإيمان؟!
[2] تاريخ المدينة ج: ٣ ص: ۹۳۱، واللفظ له. تاريخ الطبري ج: ۳ ص: ۲۹۸ في ذكر قصة الشورى. الكامل في التاريخ ج: ٣ ص: ٧٢ في ذكر قصة الشورى.
[3] شرح نهج البلاغة ج: ٦ ص: ٤٣ في أخبار يوم السقيفة، واللفظ نه. أمالي الشيخ الطوسي ص: ۱۷۷ المجلس السادس حديث: ٥٠.