الوظيفة الأهم للنبي (صلى الله عليه وآله)

الأول: أن الأوهام المذكورة ناشئة عن عدم تحديد الأولويات في وظيفة النبي (صلى الله عليه وآله) الشرعية. فإن أول وظائفه وأهمها - كما هو حال سائر الأنبياء (عليهم السلام) - ليس هو إصلاح الناس وهدايتهم، بحيث يتقبلون تعاليم الدين ويتمسكون بها ويحافظون عليها، ولا يخرجون عنها، بل هو تبليغ الناس بما عليهم وإيضاح معالم دينهم، وبيان أحكام الله تعالى وما فرضه عليهم عقيدة وعملاً، وإقامة الحجة عليهم في جميع ذلك.

مع محاولة استصلاحهم وحملهم على أداء ما عليهم واستجابتهم لدعوة الحق بالموعظة الحسنة ترغيباً وترهيباً، مع إشعارهم بصدقه فيما يدعو إليه - بتطبيقه على نفسه وتفاعله به - وبحبه لهم واهتمامه بخيرهم وسعادتهم، وتحببه لهم وبتواضعه وحسن خلقه. فإن لذلك أعظم الأثر في تقبلهم منه، وتفاعلهم بقوله وعمله. وهو من تتمة وظيفته. وبعد ذلك كله فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر.

قال الله عز وجل: (رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُل)[1]، وقال تعالى: ﴿فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ)[2]، وقال عز من قائل: (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ)[3]، وقال تعالى: ﴿وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ)[4]، وقال عز وجل: ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ)[5]، وقال جل شأنه: ﴿لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ * فَإِن تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ)[6]... إلى غير ذلك.

ويظهر من بعض الآيات أن الخلاف سنة إلهية في البشرية، قال عز من قائل: ﴿وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلَّا مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ)[7]، وقال تعالى: ﴿وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ)[8].

بل أكد القرآن الكريم على قلة المهتدين وعدم تقبل الأكثر لداعي الحق. قال عز من قائل: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ)[9]، وقال عز وجل: (لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ * لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ)[10].

وقد صرح القرآن المجيد بقلة المهتدين والمؤمنين عموماً في جميع الأمم. قال تعالى: ﴿وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ)[11]، وقال عز وجل: (وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ)[12]، وقال سبحانه: ﴿إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ)[13]، وقال عز وجل: (وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكورُ)[14]... إلى غير ذلك مما استفاضت به آيات القرآن المجيد، كما يظهر لكل ناظر فيه، فإنه من الوضوح بحد يستغني عن البيان.

بل قد أكد النبي (صلى الله عليه وآله) على أن أمته ستسير على سنن من كان قبلهم شبراً بشبر وذراعاً بذراع[15]، وعلى أن الإسلام بدأ غريباً وسيعود غريباً[16]. كما استفاضت عنه (صلى الله عليه وآله) أحاديث الحوض بارتداد بعض أصحابه أو كثير منهم على أعقابهم القهقرى[17]... إلى غير ذلك، ومنها فاجعة الطف بفظاعتها وبشاعتها.

ومع ذلك كله بقي النبي (صلى الله عليه وآله) مصمماً على المضي في أداء وظيفته وتبليغ رسالته مهما كلفه ذلك من ثمن، ومهما كانت النتائج على أرض الواقع، نتيجة تقصير الناس أنفسهم من دون تقصير منه (صلى الله عليه وآله) في التبليغ وأداء الوظيفة.

حتى إنه (صلى الله عليه وآله) قال - كما في حديث العرباض بن سارية -: ((قد تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها، لا يزيغ بعدي عنها إلا هالك...))[18] مشيراً إلى وضوح الحق نتيجة جهوده (صلى الله عليه وآله) في التبليغ، بحيث لا تحجبه الشبهات، ومحاولات التعتيم والتضليل مهما كانت.

وقال الله عز وجل: (وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِين تَفَرَّقُوا وتَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَبْيَضُ وُجُوهٌ وَتَسْودُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ)[19].

 


[1] سورة النساء الآية: ١٦٥.

[2] سورة الشورى الآية: ٤٨.

[3] سورة النحل الآية: ١٢٥.

[4] سورة الشعراء الآية: ٢١٥.

[5] سورة آل عمران الآية: ١٥٩.

[6] سورة التوبة الآية: ۱۲۸-۱۲۹.

[7] سورة هود الآية: ۱۱۸-۱۱۹.

[8] سورة البقرة الآية: ٣٦.

[9] سورة البقرة الآية: ٦.

[10] سورة يس الآية: ٦-٧.

[11] سورة يوسف الآية: ١٠٣.

[12] سورة الأعراف الآية: ١٠٢.

[13] سورة ص الآية: ٢٤.

[14] سورة سبأ الآية: ١٣.

[15] صحيح البخاري ج: ٦ ص: ٢٦٦٩ كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة: باب قول النبي : لتتبعن سنن من كان قبلكم، واللفظ له، ج: ٣ ص: ١٢٧٤ كتاب الأنبياء سنن ابن ماجة ج: ۲ ص: ۱۳۲۲ کتاب الفتن: باب افتراق الأمم. المستدرك على الصحيحين ج:۱ ص: ۹۳ كتاب الإيمان. وغيرها من المصادر الكثيرة.

[16] الغيبة للنعماني ج: ١ ص: ٣٣٤ باب أن الإسلام بدأ غريباً وسيعود غريباً. تفسير العياشي ج: ٢ ص: ٣٠٣ في تفسير قوله تعالى: (يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أَنَاسِ بِإمَامِهِمْ). مسند أبي يعلى ج: ١١ ص: ٥٢ من مسند أبي هريرة. الطبقات الكبرى لابن سعد ج ١ ص: ٣٥٣ في ذكر وفد دوس. وغيرها من المصادر الكثيرة.

[17] صحيح البخاري ج: ٥ ص: ٢٤٠٧ كتاب الرقاق: باب في الحوض، واللفظ له. تفسير القرطبي ج: ٤ ص: ١٦٨. تغليق التعليق ج: ٥ ص: ١٨٦ كتاب الرقاق، باب في الحوض. وغيرها من المصادر.

[18] مسند أحمد ج: ٤ ص: ١٢٦ حديث العرباض بن سارية عن النبي ﷺ، واللفظ له. تفسير القرطبي ج: ۷ ص: ۱۳۸، سنن ابن ماجة ج ١ ص: ١٥ باب اتباع سنة الخلفاء الراشدين المهديين. المستدرك على الصحيحين ج: 1 ص: ١٧٥ كتاب العلم.

[19] سورة آل عمران الآية: ١٠٥-١٠٧.