تمهيد

انصبت جهودنا في هذا الكتاب - على سعة حجمه - على بيان جهود الأئمة من أهل البيت (صلوات الله عليهم) وخاصّة الصحابة والمؤمنين، وتضحياتهم من أجل إظهار الحقيقة الدينية بواقعها السليم والمشرف، والحفاظ عليها من الضياع والتشويه، بل المسخ، الذي من شأنه أن يترتب على انحراف مسار السلطة في الإسلام، كما حصل في الأديان السابقة، بل في كل دعوة حينما تُسيَّس، وتتدخل في مسارها المصالح الشخصية، والضغوط الخارجية، والصراع بين الثقافات المختلفة.

وكانت نتيجة تلك الجهود والتضحيات قيام أمة ظاهرة تدعو إلى الحق وإلى الطريق المستقيم، وتقول كلمة الحق للحق. ويستضيء بنورها ويهتدي بهداها كل طالب للحقيقة، ولا يضرها خذلان من خذلها.

كما لم تفلح جهود الأعداء المكثفة، في الفترات المتعاقبة، من أجل القضاء عليها، واستئصالها من جذورها، أو حرف مسارها، والخروج بها عن واقعها المشرِّف.

وصارت هذه الأمة الداعية للحق مورداً العناية الله تعالى وتسديده ولرعاية ولي الله عز وجل وخليفته في أرضه الحجة المنتظر (عجل الله فرجه الشريف) الذي كان وجه الانتفاع به في غيبته كالانتفاع بالشمس إذا جلّلها السحاب، كما ورد عنه وعن آبائه (صلوات الله عليهم)، والذي هو أمل هذه الأمة المتعبة، المحفز لها على الإصرار والمضي في طريقها، والقيام بما عليها من الدعوة للحق.

وهدفنا من هذا الجهد المتواضع في كتابنا هذا وإن كان شريفاً في نفسه، حقيقاً بالاهتمام، إلا أن ذلك قد يثير - ولو بوجه غير مباشر - التساؤل عن دور النبي (صلى الله عليه وآله) في إظهار الحقيقة، وفي الحفاظ على جوهر الإسلام القويم. وعما صنعه على الأرض في سبيل ذلك.

بل قد يتوهم بعض الناس فشله (صلى الله عليه وآله) - ولو نسبياً - في ذلك، حيث لم يتفاعل عامة المسلمين معه في عصره، ولم يستطع إصلاحهم، بحيث ينهضوا بحمل الدعوة بواقعها وصفائها. فكانت الغلبة للمنحرفين والمنافقين، مما أدى إلى انحراف مسار السلطة في الإسلام من بعده(صلى الله عليه وآله)، لعجزه عن إقناع المسلمين، بحيث يتأثرون بحديثه وسيرته ويتفاعلون معه تشريعاً وسلوكاً، ويتمسكون بتعاليم الإسلام، ويتأدبون بآدابه.

بل قد يصل الأمر إلى توهم ضعف إدارته (صلى الله عليه وآله) وفقده السيطرة على المسلمين، بتغاضيه عن مواقف المنافقين، وعدم أخذه بالحزم في الأمور، حتى تسنى لهم ما أرادوا، وانهار مشروعه حتى كاد يقضى عليه من بعده، لولا جهود أهل بيته (عليهم السلام) لا وخاصّة أصحابه (رضوان الله تعالى عليهم).

وغاية ما استطاعوا - بسبب الانحراف الذي حصل - أن أقاموا لدعوة الحق أمة مغلوبة على أمرها، والكثرة الكاثرة من المسلمين على خلافها، قد رضوا بالإسلام المحرّف الخاضع للسلطة والجاري على ما تريد في السلوك والتشريع.

بل أغرق كثير منهم في الإرهاب والوحشية، بنحو يعكس صورة سيئة عن الإسلام القويم - تشريعاً وسلوكاً - ويستغلها أعداؤه، كما نراه هذه الأيام.

بل سبق أن حصل ذلك في فترات متعاقبة من تاريخ الإسلام الطويل، كما في بعض فرق الخوارج، وثورة صاحب الزنج، وفرقة القرامطة، وغيرها.

وربما يتغاضى بعض المتعصبين عن أدلة الإمامة المحكمة، وعن الواقع التاريخي المؤسف لكثير من الصحابة، وعن حال المسلمين المزري نتيجة انحراف السلطة في الإسلام، ثم يغرق في التشنيع على الطائفة المحقة التي تتبنى خط أهل البيت (صلوات الله عليهم)، وتدعي انحراف مسار السلطة في الإسلام، وانقلاب جمهور المسلمين بعد النبي (صلى الله عليه وآله) وخروجهم عن تعاليمه (صلى الله عليه وآله).

بدعوى: أن ذلك طعن في شخصه الكريم (صلى الله عليه وآله)، وتوهين له، حيث لم يستطع بعد جهوده المكثفة في تلك المدة الطويلة أن يصلح جماعة معتداً بها من أتباعه، تصلح لحمل دعوته القويمة بصفائها ونقائها، وتبليغها الأجيال اللاحقة، بحيث لم يثبت على الحق إلا قلة قليلة لا تتجاوز عدد الأصابع، ولا تستطيع الوقوف أمام الكثرة الكاثرة التي تخلت عن تعاليم الإسلام القويم بحقيقتها الصافية، وانحرفت عنها.

والحديث في التعقيب على ذلك ودفع هذه الشبهات، وإيضاح موقف النبي (صلى الله عليه وآله) ومدى جهوده ونجاحه في مشروعه، يحتاج إلى جهد قد لا ننهض به، ولا نؤدي حقه المناسب في هذه العجالة.

غير أنّا نحاول أن نؤدي ما يتيسر لنا بيانه هنا من ذلك بعد الاتكال على الله تعالى، وطلب العون والتسديد منه جل شأنه. وذلك ببيان أمور: