1- فالإمام الحسين (صلوات الله عليه) يعلن من يومه الأول في وصيته لأخيه محمد بن الحنفية المتقدمة أن هدفه الإصلاح في الأمة والسير بسيرة جده وأبيه (صلوات الله عليهما وآلهما)[1]. وإن كانت هذه السيرة لا تعجب الكثيرين، على ما أشرنا إليه آنفاً.
٢- كما أنه يعلن فيها عن أن موقفه ممن يردّ عليه ذلك هو الصبر وانتظار حكم الله تعالى، من دون أن يهدد بالعنف والانتقام منه، أو يلجأ للشتم والتهريج والتشنيع.
3- ويعلن في كتابه إلى بني هاشم أن مصير من يتبعه الشهادة، ليكونوا على بصيرة من أمرهم، من دون أن يلوّح لهم بأمل النجاح العسكري، من أجل حثهم على الالتحاق به ونصره[2].
٤- وبنحو ذلك يعلن في خطبته في مكة المكرمة المتقدمة عندما عزم على الخروج إلى العراق، حيث أعلن (عليه السلام) أنه سوف يقتل، وأنه لابد لمن يتبعه أن يكون باذلاً في أهل البيت (صلوات الله عليهم) مهجته، موطناً على لقاء الله عز وجل نفسه[3].
5- ويبادر بالخروج من مكة المعظمة والابتعاد عنها، لئلا تهتك بسبيه حرمتها وحرمة الحرم الشريف، ولا يتخذ ذلك ذريعة لتشويه صورة عدوه. ويقتصر في مواجهة خصمه على ما يملكه بشخصه الشريف هو ومن تبعه طوعاً من حرمة. تنزهاً منه (عليه السلام) عن الاستغلال والانتهازية[4].
٦- ولما أرسل (صلوات الله عليه) مسلم بن عقيل (عليه السلام) إلى الكوفة لم يمنه النصر، بل قال له: ((إني موجهك إلى أهل الكوفة. وسيقضي الله في أمرك ما يحب ويرضى. وأنا أرجو أن أكون أنا وأنت في درجة الشهداء...))[5].
7- وحينما بلغه (عليه السلام) في الطريق مقتل مسلم بن عقيل وهاني بن عروة وعبد الله بن يقطر، وخذلان أهل الكوفة له، خطب من معه وأعلمهم بذلك، وأذن لهم بالانصراف.
فانصرف عنه كثير ممن تبعه في الطريق، لظنهم أنه يأتي بلداً أطاعه أهله، فكره (صلوات الله عليه) أن يسيروا معه إلا على علم بما يقدمون عليه[6].
8- ولما طلبوا من سفيره مسلم بن عقيل أن يغتال ابن زياد، حينما جاء الزيارة شريك في دار هاني بن عروة، لم يفعل ما أرادوا منه. ولما سئل عن ذلك كان في جملة عذره حديث النبي (صلى الله عليه وآله) الذي قال فيه: ((إن الإيمان قيد الفتك))[7].
٩- وفي شراف أمر الإمام الحسين (صلوات الله عليه) فتيانه أن يستكثروا من الماء، وسقى به جيش الحر بن يزيد الرياحي، تفضلاً منه عليهم، لتحليه بمكارم الأخلاق. مع أنهم في صف أعدائه، وقد جاؤوا ليأخذوه ومن معه أسرى إلى ابن زياد، ليمضي حكمه فيهم[8].
١٠ - ولما منعه الحرّ من النزول في نينوى أو الغاضرية أو شفية قال زهير بن القين (رضوان الله تعالى عليه) للإمام الحسين(عليه السلام): ((إنه لا يكون والله بعد ما ترون إلا ما هو أشد منه يا ابن رسول الله. وإن قتال هؤلاء الساعة أهون علينا من قتال من يأتينا من بعدهم. فلعمري ليأتينا من بعد من ترى ما لا قبل لنا به)). فقال له الإمام الحسين (صلوات الله عليه): ((ما كنت لأبدأهم بالقتال))[9] .
وذلك منه (عليه السلام) غاية في التنزه عن البغي والعدوان، أو عن أن يتهم بشيء من ذلك تحريفاً للواقع، وتشويهاً للحقيقة، وتهريجاً عليه.
۱۱ - ومثله ما ورد من أن أصحاب الإمام الحسين (عليه السلام) لما أشعلوا النار في الحطب في الخندق الذي حفروه حولهم عندما حوصروا، نادى الشمر: ((يا حسين استعجلت النار في الدنيا قبل يوم القيامة)). فقال مسلم بن عوسجة (رضوان الله عليه) للإمام الحسين(عليه السلام): ((يا ابن رسول الله جعلت فداك ألا أرميه بسهم؟ فإنه قد أمكنني، وليس يسقط سهم. فالفاسق من أعظم الجبارين)). فقال له الإمام الحسين (صلوات الله عليه): ((لا ترمه، فإني أكره أن أبدأهم))[10].
١٢ - ولما حوصر (عليه السلام) وهدد بالمناجزة والقتال، خطب أصحابه ليلة العاشر من المحرم، وقال في جملة ما قال: ((أما بعد فإني لا أعلم أصحاباً أوفى ولا أخير من أصحابي، ولا أهل بيت أبرّ ولا أوصل من أهل بيتي، فجزاكم الله عني خيراً. ألا وإني لأظن يومنا من هؤلاء الأعداء غداً. وإني قد أذنت لكم جميعاً. فانطلقوا في حِلّ ليس عليكم مني ذمام. هذا الليل قد غشيكم فاتخذوه جملاً. وليأخذ كل رجل منكم بيد رجل من أهل بيتي. فجزاكم الله جميعاً خيراً. ثم تفرقوا في البلاد في سوادكم ومدائنكم حتى يفرج الله. فإن القوم يطلبونني، ولو أصابوني لهوا عن طلب غيري))[11].
كل ذلك من أجل أن يكون موقف أصحابه معه عن قناعة تامة غير مشوبة بإحراج أو حياء أو نحو ذلك مما قد يستغله المصلحيون، خصوصاً في مثل هذه الظروف الحرجة، حيث قد يسلكون فيها الطرق الملتوية ويتشبثون بالذرائع الواهية، في محاولة تكثير الأعوان، وضمان نصرتهم لهم.
١٣- ومثل ذلك ما عن الأسود بن قيس العبدي قال: ((قيل لمحمد بن بشير الحضرمي: قد أسر ابنك بثغر الري. قال: عند الله أحتسبه ونفسي. ما كنت أحب أن يؤسر، ولا أن أبقى بعده. فسمع قوله الحسين، فقال له: رحمك الله . أنت في حلّ من بيعتي. فاعمل في فكاك ابنك. قال: أكلتني السباع حياً إن فارقتك. قال: فاعط ابنك هذه الأثواب البرود يستعين بها في فداء أخيه، فأعطاه خمسة أثواب قيمتها ألف دينار))[12]... إلى غير ذلك مما يجده الناظر في تاريخ هذه النهضة المقدسة مما يشهد بالتزام المبادئ والدين والخلق الرفيع فيها.
وهو الذي جرى عليه أئمة أهل البيت (صلوات الله عليهم) في جميع مواقفهم ونشاطاتهم، وعرف عنهم، وكان سبباً في فرض احترامهم على العدو والصديق، بل تقديسهم هم.
[1] تقدم في أول الكلام في أن نهضة الإمام الحسين (عليه السلام) شيعية الاتجاه.
[2] تقدم في أواخر المقدمة.
[3] تقدم في المقدمة عند الكلام في أن الإمام الحسين (عليه السلام) مأمور بنهضته عالم بمصيره.
[4] بينما نرى ابن الزبير لم يكتف بتعوذه بالبيت الذي صار سبباً لهتك حرمته حتى منع الناس من إطفاء النار التي أحرقت الكعبة المعظمة ليحرض الناس بذلك على أهل الشام. الكامل في التاريخ ج: ٤ ص: ١٢٤ في أحداث سنة أربع وستين: ذكر مسير مسلم لحصار ابن الزبير وموته. تاريخ اليعقوبي ج: ٢ ص: ٢٥٢ أيام يزيد بن معاوية. نهاية الأرب في فنون الأدب ج: ٢١ ص: ٦٠ في أحداث سنة خمس وستين. وورد أنه بعد أن احترقت تركها إلى الموسم كي يحزب الناس على جيش يزيد. لاحظ فتح الباري ج: ٣ ص: ٣٥٤. تفسير القرآن العظيم لابن كثير ج: ۱ ص: ۱۸۷.
[5] مقتل الحسين للخوارزمي ج: ١ ص: ١٩٦ في مقتل مسلم بن عقيل، واللفظ له. الفتوح لابن أعثم ج: ٥ ص: ٣٦ ذكر كتاب احسين بن علي إلى أهل الكوفة.
[6] مقتل الحسين للخوارزمي ج: ۱ ص ۲۲۹ واللفظ له الكامل في التاريخ ج: ٤ ص: ٤٣ أحداث سنة ستين من الهجرة ذكر مسير الحسين إلى الكوفة. تاريخ الطبري ج: ٤ ص: ٣٠١ أحداث سنة إحدى وستين من الهجرة الفصول المهمة ج: ٢ ص: ٨٠٦ - ٨٠٧ انفصل الثالث: فصل في ذكر مخرجه. وقريب منه في البداية والنهاية ج: ٨ ص: ۱۸۲ أحداث سنة ستين من الهجرة: صفة مخرج الحسين إلى العراق. وغيرها من المصادر.
[7] مقاتل الطالبيين ص: ٦٥ مقتل الحسين بن علي (عليه السلام). تاريخ الطبري ج: ٤ ص: ٢٧١ أحداث سنة ستين من الهجرة: ذكر الخبر عن مراسلة الكوفيين الحسين(عليه السلام). الكامل في التاريخ ج: ٤ ص: ٢٧ أحداث سنة ستين من الهجرة: ذكر الخبر عن مراسلة الكوفيين الحسين(عليه السلام).
[8] تقدمت مصادره في المقدمة عند الكلام في أن الإمام الحسين(عليه السلام) لم يتحر مظان السلامة.
ونرى في مقابل ذلك أهل المدينة في واقعة الحرة - فيها ذكره بعض المؤرخين - قد جعلوا في كل منهل بينهم وبين الشام قطراناً وعوروه لئلا يستقي منه جيش الشام، وإن أضر ذلك بغير الجيش من أهل البادية والمسافرين. أنساب الأشراف ج: ٥ ص: ٣٥٣ خبر يوم الحرة. تاريخ مدينة دمشق ج: ٥٨ ص: ١٠٤، ١٠٥ في ترجمة مسلم بن عقبة بن رياح. تاريخ الطبري ج: 4 ص: ٣٨٠ في أحداث سنة ثلاث وستين. الكامل في التاريخ ج: ٤ ص: ١١٣ في أحداث سنة ثلاث وستين: ذكر وقعة حرة. البداية والنهاية ج: ٨ ص: ٢٤٣ في أحداث سنة ثلاث وستين. تاريخ خليفة بن خياط ص: ۱۸۲ في أحداث سنة ثلاث وستين: أمر الحرة، وغيرها من المصادر.
[9] تقدمت مصادره في المقدمة عند الكلام في أن الإمام الحسين(عليه السلام) لم يتحر مظان السلامة.
[10] تاريخ الطبري ج: ٤ ص: ٣٢٢ أحداث سنة إحدى وستين من الهجرة.
[11] الكامل في التاريخ ج: ٤ ص: ٥٨٥٧ أحداث سنة إحدى وستين من الهجرة: ذكر مقتل الحسين (رضي الله عنه)، واللفظ له تاريخ الطبري ج: ٤ ص: ٣١٧ أحداث سنة إحدى وستين من الهجرة.
[12] تاریخ دمشق ج: ١٤ ص: ۱۸۲ في ترجمة الحسين بن علي بن أبي طالب، واللفظ له. تهذيب الكمال ج: ٦ ص: ٤٠٧ في ترجمة الحسين بن علي بن أبي طالب. ترجمة الإمام الحسين(عليه السلام) من طبقات ابن سعد ص: ۷۱: ۲۹۲