وقد أثار ذلك حفيظة الظالمين، فجدوا في منعهم والتنكيل بهم، وحفيظة كثير من المخالفين، فجدوا في الإنكار والتشنيع عليهم بمختلف الأساليب.
وذلك وإن كان قد يعيقهم عن بعض ما يريدون في الفترات المتعاقبة، إلا أنه يتجلى هم به ظلامة أهل البيت (صلوات الله عليهم) على طول الخط، وظلامة شيعتهم تبعاً لهم.
حتى قال الشاعر تعريضاً بمواقف المتوكل العباسي، حينما هدم قبر الإمام الحسين (صلوات الله عليه)، ومنع الناس من زيارته، واشتد في ذلك:
تالله إن كانت أمية قد أنت قتل ابن بنت نبيها مظلوما
فلقد أتاه بنو أبيه بمثله هذا العمرك قبره مهدوما
أسفوا على أن لا يكونوا شاركوا في قتله فتتبعوه رميما[1]
وقد جرى الخلف على سنن السلف، وإن اختلفت الأساليب والصور والمبررات والحجج.
أثر المنع المذكور على موقف الشيعة
وبذلك يتأكد ولاء الشيعة لأهل البيت (صلوات الله عليهم)، وإصرارهم على إحياء أمرهم، وصاروا يستسهلون المصاعب ويتحملون المصائب في سبيل ذلك، تعاطفاً معهم(عليهم السلام)، وأداء لعظيم حقهم عليهم.
كما يتجلى لهم أهمية هذه الممارسات والشعائر في تثبيت وجودهم، وتأكيد هويتهم، وإغاظة عدوهم، فيزيدهم ذلك تمسكاً بها، وإصراراً عليها، كردّ فعل لمواقف أعدائهم معهم، وظلمهم لهم.
وبمرور الزمن وتعاقب المحن، واستمرار الصراع وتفاقمه، صارت هذه الشعائر جزءاً من كيان الشيعة وتجذرت في أعماقهم، وأخذت شجرتها تنمو وتورق وتخفق بظلالها عليهم.
وكان لها أعظم الأثر لصالح دعوتهم في أمور:
أثر إحياء المناسبات المذكورة في حيوية الشيعة ونشاطهم
الأول: حيويتهم ونشاطهم. لأن فعالياتهم وممارساتهم في إحيائها نشيطة جداً، وملفتة للنظر، كما هو ظاهر للعيان.
مضافاً إلى ما أشرنا إليه آنفاً من أنها فتحت الباب لإحياء جميع مناسبات أهل البيت (صلوات الله عليهم)، وهي كثيرة جداً على مدار السنة، وذلك يجعل جمهور الشيعة في عطاء مستمر، وحركة دائمة، والحركة دليل الحياة، كما قيل.
أثر هذا الإحياء في جمع شمل الشيعة وتقوية روابطهم
الثاني: جمع شملهم، وتماسكهم، وتثبيت وحدتهم، وتقوية روابطهم، حيث يذكرهم ذلك بمشتركاتهم الجامعة بينهم، من موالاة أهل البيت (صلوات الله عليهم)، وموالاة أوليائهم، ومعاداة أعدائهم، وما يتفرع على ذلك من أحزان وأفراح يقومون بإحيائها بتعاون ودعم مشترك.
وإن الأموال التي تنفق في سبيل ذلك من الكثرة بحدّ يلفت النظر، سواءً كانت مشاريع ثابتة - كالحسينيات والأوقاف ونحوها - أم نفقات مصروفة لسدّ الحاجيات المتجددة، كالإطعام والاستضافة وسائر الخدمات، ومكافآت الخطباء والذاكرين وغيرها.
ويقوم بذلك جمهور الشيعة وخاصتهم. حسبما يتيسر لكل أحد ويقتنع به، بكامل الاختيار، بل كثيراً ما يكون مع الرغبة الملحّة. وقد يصل الأمر إلى الإصرار نتيجة الالتزام الشرعي - بسبب النذر - أو وفاءً بالوعد والالتزام النفسي، أو جرياً على العادة المستحكمة ... إلى غير ذلك.
ومن الطبيعي أن يكون ذلك كله سبباً في إثارة العواطف وتبادلها بين أفرادهم وجماعاتهم، وتخفيف حدة الخلاف بينهم، بسبب وحدة المصيبة والسعي والهدف، والشعور بشرف الروابط وسموها.
أثر الإحياء المذكور في تثبيت هوية الشيعة
الثالث: تثبيت هويتهم في تولي أهل البيت (صلوات الله عليهم) ومن والاهم، والبراءة من أعدائهم وظالميهم وأتباعهم، كما تطفح بذلك الزيارات الواردة عن الأئمة (صلوات الله عليهم) التي يتلونها، وتعج به مجالس العزاء والأفراح التي يقيمونها بمختلف صورها، وأشعار المدح والرثاء التي يكثرون من إنشائها وإنشادها. وقد أشار إلى ذلك سعد الدين التفتازاني في كلامه المتقدم قريباً في أواخر المقام الثاني.
نشر الثقافة العامة والدينية بسبب الإحياء المذكور
الرابع: تثقيف جمهورهم بالثقافة العامة، والثقافة الدينية والمذهبية الخاصة، وتعميقها فيهم. فإن إحياء تلك المناسبات وإن كان الهدف منه بالدرجة الأولى هو عرض الجانب العاطفي الذي يخص المناسبة التي يراد إحياؤها وما يناسب ذلك، إلا أنه كثيراً ما تكون منبراً للثقافة العامة، والثقافة الدينية والمذهبية خاصة.
وبذلك أمكن نشر الثقافة الدينية والشيعية نسبياً بين جمهور الشيعة بعد أن كان التثقيف العام في غالب الدول والمناطق التي يتواجد فيها الشيعة غير شيعي، بل هو على الطرف النقيض للثقافة الشيعية.
وربما كان جمهور الشيعة وعوامهم أثقف نسبياً من جمهور وعوام غيرهم ببركة تلك المناسبات الشريفة. ولما سبق من اهتمام علماء الجمهور بإبعاد جمهورهم عن تراثهم، لما فيه من الثغرات المنبهة لحق التشيع.
تأثير إحياء تلك المناسبات في إصلاح الشيعة نسبياً
كما قد تكون المناسبات المذكورة سبباً في تأثر جمهور الشيعة نسبياً بأخلاق أهل البيت (صلوات الله عليهم) الرفيعة، في الصدق والأمانة، وسجاحة الخلق ولين الجانب، وغير ذلك من الصفات الحميدة.
فإن الشيعة - كأفراد وإن لم يخلوا عن سلبيات كثيرة في هذا الجانب، إلا أنه بمقارنتهم مع غيرهم قد يبدو الفرق واضحاً نتيجة نشر ثقافة أهل البيت (صلوات الله عليهم) عند إحياء المناسبات المذكورة، حيث تترك آثارها في أنفسهم وبصماتها في سلوكهم، ويتفاعلون بها نسبياً.
وقد أشار إلى بعض جوانب ذلك ابن أبي الحديد، حيث قال في ترجمته الأمير المؤمنين (صلوات الله عليه): وأما سجاحة الأخلاق وبشر الوجه وطلاقة المحيى والتبسم، فهو المضروب به المثل فيه، حتى عابه بذلك أعداؤه. قال عمرو بن العاص لأهل الشام: إنه ذو دعابة شديدة....
وعمرو بن العاص إنما أخذها عن عمر بن الخطاب، لقوله لما عزم على استخلافه لله أبوك لولا دعابة فيك. إلا أن عمر اقتصر عليها، وعمرو زاد فيها وسمجها.
قال صعصعة بن صوحان وغيره من شيعته وأصحابه: كان فينا كأحدنا، لين جانب، وشدة تواضع، وسهولة قياد. وكنا نهابه مهابة الأسير المربوط للسياف الواقف على رأسه ....
وقد بقي هذا الخلق متوارثاً متناقلاً في محبيه وأوليائه إلى الآن. كما بقي الجفاء والخشونة والوعورة في الجانب الآخر. ومن له أدنى معرفة بأخلاق الناس وعوائدهم يعرف ذلك))[2].
وكثيراً ما يكون ذلك سبباً لانفتاح غيرهم عليهم وتواصله معهم، وسماعه منهم وتفاعله بحديثهم، مما قد ينتهي إلى تقبله منهم واقتناعه بدعوتهم ودخوله في جماعتهم.
ولذا نرى أعداءهم كثيراً ما يحذرون من التواصل معهم والانخداع بأخلاقهم وتعاملهم مع غيرهم ويوصون بالابتعاد عنهم وعدم فتح الحوار معهم.
إيصال مفاهيم التشيع بإحياء تلك المناسبات
الخامس: رفع رايتهم وإسماع دعوتهم لغيرهم، لأن تميزهم بإحياء تلك المناسبات، ومواظبتهم على رفع شعائر الحب والولاء فيها، وتأكيدهم على ظلامة أهل البيت (صلوات الله عليهم)، واستثارتهم للعواطف بمناسبة ذلك، يلفت أنظار الآخرين إليهم، ويحملهم على الاحتكاك. بهم، والتعرف على ما عندهم. ولاسيما أن إحياء هذه المناسبات يكون غالباً بنحو مثير وملفت للنظر.
وكثيراً ما يكون ذلك سبباً لهداية الآخرين وتقبلهم لدعوتهم ودخولهم في حوزتهم. لتفاعلهم بتلك المناسبات، بنحو يكون محفزاً لسماع أدلة الشيعة والنظر في حجتهم، ثم الاستجابة لها، لما ذكرناه في المقام الأول من قوة أدلة الشيعة، وموافقة دعوتهم للمنطق السليم. ولاسيما أنها قد تدعم بالمد الإلهي، وظهور الكرامات الباهرة، التي تأخذ بالأعناق.
والظاهر أن انتشار التشيع في كثير من بقاع المعمورة، وظهور دعوته وتوسعها بمرور الزمن، إنما كانت بسبب إحياء فاجعة الطف، وإصرار الشيعة على ذلك، والانفتاح منها على بقية مناسبات أهل البيت (صلوات الله عليهم) وعلى ثقافتهم. فإنهم لا يملكون من القوى المادية ما ينهض بهذا العبء الثقيل، ويحقق هذه النتائج الرائعة.
خلود دعوة التشيع بإحياء هذه المناسبات
السادس: أن دعوة التشيع (أعزها الله تعالى) وإن تعهد الله عز وجل ببقائها ظاهرة مسموعة الصوت، لتقوم بها الحجة على الناس، إلا أن الظاهر أن لفاجعة الطف أعظم الأثر في بقائها، رغم الضغوط الكثيرة التي تعرضت لتها.
وذلك لأن تفاعل الجمهور بالفاجعة واهتمامهم بإحيائها لا يتوقف على دفع الخاصة لهم - كرجال الدين أو غيرهم - وتشجيعهم إياهم، ليسهل على العدو القضاء عليها بتحجيم دور الخاصة، بالترغيب والترهيب، وصنوف التنكيل، حتى التصفية الجسدية، كما حصل ذلك قديماً وحديثاً.
بل هي قد أخذت موقعها من نفوس الجمهور على اختلاف طبقاتهم، وتجذرت في أعماقهم، بحيث يهتمون بإحيائها بأنفسهم، ويندفعون لذلك بطبعهم، وكأنها جزء من كيانهم.
ولا تزيدهم الضغوط في اتجاه منعها، أو التخفيف منها، إلا إصراراً وتمسكاً، حيث يرون فيها تعدياً على الحقيقة المضطهدة التي يؤمنون بها، وتحدياً لهم كأمّة، وتجاهلاً لشخصيتهم، وجرحاً لشعورهم وعواطفهم، ونيلاً من كرامتهم.
ولو اضطرتهم الضغوط للتوقف عن الإعلان بممارساتهم في إحيائها فلا يؤثر ذلك على موقعها من نفوسهم، وتفاعلهم بها، بل يزيدهم ذلك تعلقاً بها، وانشداداً لها، ونقمة على الظالمين، مع الإصرار على إحيائها سراً بما يتيسر، ويضحون في سبيل ذلك بالغالي والنفيس.
وحيث لا يتيسر القضاء على الجمهور لكثرتهم، تبقى الجذوة كامنة في نفوسهم، والعواطف محتدمة، حتى إذا سنحت الفرصة تدفق المخزون العاطفي، فكان النشاط مضاعفاً، والفعاليات مكثفة، تعويضاً عما سبق، وتحدياً للظالمين. ولذا كان مصير الضغوط عبر التاريخ الفشل الذريع والخيبة الخاسرة.
ولما كان إحياء هذه المناسبة الشريفة بمختلف وجوهه رمزاً للتشيع، وسبباً في رسوخ قدمه وتماسكه وتثبيت هويته - كما سبق - كان لاستمرار جمهور الشيعة فيه، وإصرارهم عليه بالوجه المذكور، أعظم الأثر في بقاء التشيع والحفاظ عليه بل قد يكون هو الدرع الواقي له، والقلعة الحصينة التي تعصمه.