فاجعة الطف زعزعت شرعية نظام الخلافة عند الجمهور
الجهة الثانية: أن فاجعة الطف بأبعادها السابقة كما هزت ضمير المسلمين زعزعت شرعية نظام الخلافة عند الجمهور، بما في ذلك خلافة الأولين. حيث لا يتعقل المنصف شرعية نظام ينتهي بالإسلام والمسلمين في هذه المدة القصيرة إلى هذه المأساة الفظيعة والجريمة النكراء، وتداعياتها السريعة.
ولاسيما أن هذه الفاجعة - مع فظاعتها في نفسها - قد نبّهت إلى ظلامة أهل البيت (صلوات الله عليهم) على طول الخط، والى جميع سلبيات النظام المذكور ومآسيه المتتابعة في تاريخ الإسلام والمسلمين، وإلى حجم الخسارة التي تعرض لها الإسلام نتيجة انحراف السلطة فيه عن أهل البيت الذين أذهب الله تعالى عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً.
فاجعة الطف هي العقبة الكؤود أمام نظام الخلافة
وقد أكد على ذلك أئمة أهل البيت (صلوات الله عليهم) في أحاديثهم الكثيرة، وفي الزيارات الواردة عنهم للإمام الحسين (صلوات الله عليه).
وإذا كان احترام الجمهور للصدر الأول، بل تقديسهم لهم، نتيجة العوامل المتقدمة - ومنها جهود معاوية الحثيثة - قد كان هو العقبة الكؤود أمام دعوى النص التي يتبناها الشيعة، كما سبق، فإن فاجعة الطف صارت هي العقبة الكؤود أمام شرعية نظام الخلافة عند الجمهور، واحترام الصدر الأول ممن جرى على ذلك النظام وتقديسهم.
بل قد آذنت بنسف ذلك كله، بعد أن كان من الناحية الواقعية هشاً، غير محكم الأساس، ولا قوي البرهان.
موقف بعض علماء الجمهور من إحياء الفاجعة
وقد أدرك ذلك كثير من علماء الجمهور حتى قبل ظهور دعوة التكفيريين الذين جعلوا من الدين حرمة إحياء الذكريات المجيدة في الإسلام، والقيام بمظاهر التمجيد والتقديس لرموزه العظام.
فإن الجمهور - مع استهجانهم لفاجعة الطف عند الحديث عنها، وتعظيمهم لمقام الإمام الحسين (عليه السلام) - لا يحاولون إحياء ذكرى الفاجعة بما يتناسب مع مبانيهم، بل لا يطيق كثير منهم النيل من الظالمين والتذكير بجرائمهم.
وقد حاول كثير منهم المنع من إحياء تلك الذكرى الأليمة، والتذكير بظلامة أهل البيت (صلوات الله عليهم) وما جرى عليهم، والضغط في الاتجاه المذكور بمختلف الوسائل والحجج.
بل منعوا من لعن القائمين بتلك الجريمة النكراء والنيل منهم، وإن كان في جرائمهم ما لا يخصّ الشيعة، كواقعة الحرة الفظيعة، وهتك حرمة الحرم، وضرب مكة المكرمة والكعبة المعظمة بالمنجنيق، وغير ذلك.
وقد حاولوا تجاهل ذلك كله أو التخفيف منه، من أجل حمل المسلمين على نسيان فاجعة الطف وعدم التركيز عليها والاهتمام بها، لما للتذكير بها من الآثار السلبية على مبانيهم في نظام الحكم، التي تسلموا عليها، من دون أن يستندوا إلى ركن وثيق يقف أمام الهزة العاطفية التي تحدثها هذه الذكرى الأليمة، والحساب المنطقي الذي تنبه له.
كلام الغزالي
بل انتهى الأمر ببعضهم إلى تحريم التعرض لهذه الفاجعة وما يتعلق بها. فعن الغزالي: ((يحرم على الواعظ وغيره رواية مقتل الحسين (رضي الله عنه) وحكاية ما جرى بين الصحابة من التشاجر والتخاصم. فإنه يهيج بغض الصحابة، والطعن فيهم، وهم أعلام الدين. وما وقع بينهم من المنازعات فيحمل على محامل صحيحة. فلعل ذلك خطأ في الاجتهاد، لا لطلب الرئاسة أو الدنيا، كما لا يخفى))[1].
كلام التفتازاني
وقال سعد الدين التفتازاني: ((ما وقع بين الصحابة من المحاربات والمشاجرات - على الوجه المسطور في كتب التواريخ وعلى ألسنة الثقات - يدل بظاهره على أن بعضهم قد حاد عن طريق الحق، وبلغ حدّ الظلم والفسق، وكان الباعث له الحقد والعناد والحسد واللداد، وطلب الملك والرياسة والميل إلى اللذات والشهوات. إذ ليس كل صحابي معصوماً، ولا كل من لقي النبي ﷺ بالخير موسوماً.
إلا أن العلماء الحسن ظنهم بأصحاب رسول الله ﷺ ذكروا لها محامل وتأويلات بها تليق، وذهبوا إلى أنهم محفوظون عما يوجب التضليل والتفسيق، صوناً لعقائد المسلمين عن الزيغ والضلالة في حق كبار الصحابة. سيما المهاجرين والأنصار المبشرين بالثواب في دار القرار.
وأما ما جرى بعدهم من الظلم على أهل بيت النبيﷺ فمن الظهور بحيث لا مجال للإخفاء، ومن الشناعة بحيث لا اشتباه على الآراء. إذ تكاد تشهد به الجماد والعجماء، ويبكي له من في الأرض والسماء، وتنهد منه الجبال، وتنشق الصخور، ويبقى سوء عمله على كرّ الشهور ومرّ الدهور. فلعنة الله على من باشر أو رضي أو سعى. ولعذاب الآخرة أشد وأبقى.
فإن قيل: فمن علماء المذهب من لم يجوز اللعن على يزيد، مع علمهم بأنه يستحق ما يربو على ذلك ويزيد.
قلنا: تحامياً عن أن يرتقي إلى الأعلى فالأعلى، كما هو شعار الروافض، على ما يروى في أدعيتهم، ويجري في أنديتهم.
فرأى المعتنون بأمر الدين إلجام العوام بالكلية طريقاً إلى الاقتصاد في الاعتقاد، وبحيث لا تزل الأقدام على السواء، ولا تضل الأفهام بالأهواء. وإلا فمن يخفى عليه الجواز والاستحقاق؟! وكيف لا يقع عليه الاتفاق؟!)[2].
كلام الربيع بن نافع الحلبي حول معاوية
وهما بذلك يجريان على سنن أبي توبة الربيع بن نافع الحلبي، حيث يقول: ((معاوية ستر لأصحاب محمدﷺ، فإذا كشف الرجل الستر اجترأ على ما وراءه))[3]. وقد أقره على ذلك غير واحد.
لكنهم غفلوا أو تغافلوا عن أن مبانيهم ومباني أهل مذهبهم في احترام هؤلاء وتقديسهم، وشرعية خلافتهم، لو كانت محكمة الأساس قوية البرهان، ولم تكن هشة تنهار بالبحث والتحقيق، لما خافوا عليها من طريقة الشيعة وشعارهم، ولما اضطروا من أجل الحفاظ عليها إلى إلجام العوام بالكلية، وإلى تحريم لعن الظالمين وكشف فضائحهم، مع وضوح استحقاقهم لهما ولما يزيد عليهما ﴿قُلْ فَللَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاء لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ)[4].
موقف الغلاة لم يمنع الشيعة من ذكر كرامات أهل البيت (عليهم السلام)
ولذا نرى الشيعة قد امتحنوا بالغلاة، الذين يرتفعون بأئمة أهل البيت (صلوات الله عليهم) عن مراتبهم التي رتبهم الله تعالى فيها إلى كونهم أنبياء أو آلهة .
وقد استغل ذلك أعداء الشيعة، فجعلوا الغلو والغلاة وسيلة للتشنيع على الشيعة والتشيع والتشهير بهما، من دون إنصاف ولا رحمة.
لكن الشيعة - مع شدة موقفهم من الغلاة، ومباينتهم لهم، وتصريحهم بكفرهم - لم يمنعهم ذلك من التركيز على رفعة مقام أهل البيت (صلوات الله عليهم) وبيان كراماتهم ومعاجزهم، ولم يحذروا أن يجرهم ذلك للغلو، أو يكون سبباً للتشنيع عليهم.
وذلك لأنهم على ثقة تامّة من قوة عقيدتهم بحدودها المباينة للغلو، وقوة أدلتها، بحيث لا يخشون من أن ينجرّوا من ذلك للغلو، أو يلتبس الأمر على جمهورهم بنحو يفقدهم السيطرة عليه.
ولو فرض أن حصل لبعض الناس نحو من الإيهام والالتباس سهل على علماء الشيعة السيطرة على ذلك، وكشف الالتباس، ودفع الشبهة.
كما لا يهمهم تشنيع أعدائهم عليهم بذلك بعد ثقتهم بسلامة عقيدتهم وقوة أدلتها، وشعورهم بأن التهريج والتشنيع أضعف من أن يوهن ذلك، بل هو نتيجة شعور الطرف المقابل بضعفه في مقام الاستدلال والحساب المنطقي.
محاولة كثير من الجمهور الدفاع عن الظالمين
بل إن كثيراً من الجمهور - من حيث يشعرون أو لا يشعرون - قد جرّتهم عقدة الحذر من قوة التشيع - نتيجة الظلامات التي وقعت عليه، خصوصاً فاجعة الطف - إلى الدفاع عن جماعة من الظالمين لأهل البيت (عليهم السلام) ولشيعتهم، قد أمعنوا في الجريمة، وضجّت الدنيا بفضائحهم، بحيث سقطوا عن الاعتبار، وصاروا في مزابل التاريخ، كيزيد بن معاوية وأمثاله. حتى قد يبلغ الأمر ببعضهم إلى تبني هؤلاء واحترامهم وتبجيلهم.
الدفاع عن الظالمين يصب في صالح التشيع
وهم لا يدركون - بسبب هذه العقدة - أن هذا الدفاع والتبني لا ينفعان هؤلاء المجرمين، ولا يرفعان من شأنهم، ولا يضران الشيعة، بل يترتب عليهما أمران لهما أهميتهما في صالح الشيعة والتشيع:
الأول: أن المدافعين والمتبنين لهؤلاء قد أسقطوا اعتبار أنفسهم، لأن هؤلاء الظلمة قد بلغوا من السقوط والجريمة بحيث يبرأ منهم من يحترم نفسه، ويشعر بكرامتها عليه.
كما أن من يدافع عنهم أو يتبناهم يتلوث بجرائمهم، ويهوي للحضيض معهم. فهو كمن يحاول أن ينتشل شخصاً من مستنقع، فيهوي في ذلك المستنقع معه.
الثاني: أن ذلك يكشف عن نصب هؤلاء النفر - من المتبنين والمدافعين - لأهل البيت (صلوات الله عليهم)، وأنه لا داعي لهم للدفاع والتبني لهذه النماذج المتميزة في الجريمة، والتي صارت في مزابل التاريخ، إلا بغض أهل البيت (عليهم السلام).
وكفى الشيعة فخراً أن يهوي خصومهم للحضيض، وأن تنكشف حقيقتهم، وأنهم في الواقع خصوم لأهل البيت (صلوات الله عليهم) ونواصب لهم. كما يكفي ذلك محفزاً للشيعة على التمسك بحقهم والاعتزاز به، وفي قوة بصيرتهم في أمرهم، وإصرارهم على حقهم.
فهؤلاء، بموقفهم من الشيعة نظير المشركين في موقفهم من النبي (صلى الله عليه وآله)، حيث سلاه الله. عز وجل بقوله: (قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ) [5].
مضافاً إلى أن ذلك يستبطن الاعتراف عملياً بارتباط خط الخلافة عند الجمهور بعضه ببعض، بحيث يتحمل السابق تبعة اللاحق، ولا يسهل فصل بعضه عن بعض، كما يؤكد الشيعة على ذلك، تبعاً لأئمتهم (صلوات الله عليهم). والحمد لله رب العالمين.
[1] روح البيان للبروسوي ج: ٨ ص: ٢٤ في تفسير آية: ٢٥ سورة: ص، وهي قونه تعالى: ﴿فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِندَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ). الغرر البهية ج: ٥ ص: ٧١ باب البغاة.
[2] شرح المقاصد في علم الكلام ج: ٢ ص: ٣٠٦-٣٠٧.
[3] البداية والنهاية ج: ٨ ص: ١٤٨ أحداث سنة ستين من المهجرة: ترجمة معاوية، واللفظ له. تاريخ دمشق ج: ٥٩ ص: ۲۰۹ في ترجمة معاوية بن صخر أبي سفيان.
[4] سورة الأنعام الآية: ١٤٩.
[5] سورة الأنعام الآية: 33.