وإذا مضت مدة معتد بها، وتحقق للسلطة ما تريد، تعامل الناس معها على أنها الأمر الواقع الممثل للدين، والمفروض من قبل الله عز وجل.
وحينئذ يتيسر لها التلاعب به وفق أهدافها وأهوائها، وانطمست معالم الدين الحق، وكان الدين عندهم دين السلطة أو المؤسسة التي تنسق معها.
وحتى لو فرض تبدل السلطة نتيجة العوامل الخارجية، فإن السلطات المتعاقبة تبقى هي المرجع في الدين - جرياً على سنن الماضين - بعد أن انطمست معالمه، وضاعت الضوابط فيه. وهكذا يبقى الدين أداة بيد السلطة تستغله لصالحها. كما حصل ذلك في الأديان السابقة.
وببيان آخر: إن تعديل مسار السلطة وإن كان متعذراً، إلا أن السكوت عن سلطة الباطل في ذلك المنعطف التاريخي لها، والتعامل معها على أساس الاكتفاء بالميسور من التخفيف في الجريمة والمخالفة للدين والتحريف فيه، يفسح لها المجال للتدرج في تحقيق أهدافها في تحريف الدين وتحويره، بنحو يكون أداة لتركيز نفوذها وتثبيت شرعيتها، وإكمال مشروعها.
وذلك يكون بأمرين:
الأول: التدرج في المخالفات والتحريف، بنحو لا يستفز الجمهور. وكلما أَلِف الجمهور مرتبة من الانحراف انتقلت للمرتبة الأعلى، وهكذا حتى يألف الجمهور تحكم السلطة في الدين وتحويرها له.
الثاني: التدرج في إضعاف المعارضة مادياً بالتنكيل بها، ومعنوياً بجرها للانصهار بالسلطة، إلى أن تنتهي فاعليتها وقدرتها على تحريك الجمهور وتثقيفهم على خلاف ثقافة السلطة.
ونتيجة لذلك يُستغفل الجمهور، ويألف مرجعية الدولة في الدين، وأخذه منها، وتأخذ الدولة حريتها فيما تريد، وتتم لها أهدافها.
وهناك محذوران آخران يترتبان على ذلك لا يقلان أهمية عنه:
تبعية الدين للسلطة تخفف وقعه في نفوسهم
الأول: أن الناس إذا ألفت الدين الذي تأخذه من الدولة، وتعارفت عليه، ونسي الدين الحق، خفّ وقع الدين في نفوسهم، وضعفت حيويته وفاعليته. وبقي طقوساً وشعارات فارغة. وهو ما سعى إليه معاوية من تحكيم الترهيب والترغيب، وإثارة النعرات الجاهلية، وعزل المبادئ والمثل، على ما سبق.
بل يتلوث الدين على الأمد البعيد بجرائم السلطة، وتتشوه صورته تبعاً لها، فتتنكر الناس له، لشعورهم بأنه جاء ليدعم الدولة، ويكون آلة بيدها تنفذ عن طريقه مشاريعها الظالمة وأهدافها العدوانية. وحينئذ يبدأ الناس بالتحلل منه والخروج عنه تدريجاً، كما حصل في الأديان السابقة.
ومن المعلوم أن من أهم أسباب الموقف السلبي - الذي اتخذه الغرب الرأسمالي والشيوعية الشرقية في العصور القريبة - من الدين هو ردّ الفعل لاستغلال السلطة للدين في العصور المظلمة، وتنسيقها مع مؤسساته الخدمة أهدافها، واستعبادها للشعوب.
قد ينتهي التحريف بتحول الدين إلى أساطير وخرافات
الثاني: أن التحريف كثيراً ما ينتهي بالدين إلى أساطير وخرافات وتناقضات تتنافى مع الفطرة، ولا يتقبلها العقل السليم. فإما أن يرفضه ذوو المعرفة والعقول المتفتحة جملة وتفصيلاً، أو يكتفوا في اعتناقه بمحض الانتساب تأثراً بالبيئة، أو مع التبني، تعصباً وتثبيتاً لهويتهم التي توارثوها عن آبائهم، من دون أن يأخذ موقعه المناسب من نفوسهم.
ويتضح ذلك بالنظرة الفاحصة للتراث الذي ينسب للأديان السماوية السابقة على الإسلام، وتتبناه حتى الآن المؤسسات الدينية الناطقة باسمها.
وهكذا الحال في كثير من التراث الإسلامي المشوه الذي كان لانحراف السلطة الأثر في إقحامه في تراث الإسلام الرفيع.
وقد استغله أعداء الإسلام - من المستشرقين وأمثالهم - للنيل من الإسلام والتهريج عليه. وهم يجهلون أو يتجاهلون براءة الإسلام منه، وأنه دخيل فيه مكذوب عليه.
بل من القريب أن تكون كثير من الأديان الباطلة الوثنية وغيرها ترجع في أصولها إلى أديان سماوية حقة، قد مسختها يد التحريف والتشويه، حتى أخرجتها عن حقيقتها، وإن بقيت تحمل بعض ملامحها، أو شيئاً من تعاليمها.
ويتضح ذلك في العرب قبل الإسلام، حيث بقيت فيهم كثير من ملامح دين إبراهيم (على نبينا وآله وعليه الصلاة والسلام) كالحج والعمرة والختان وغسل الجنابة والميت وكثير من محرمات النكاح، وتعظيم البيت الحرام واحترام إبراهيم نفسه، وغير ذلك.