تأكد عدالة الصحابة وتقديس الشيخين في عهد المتوكل

ثم جاء عهد المتوكل الذي يبدو من الجمهور تعظيمه وتبجيله، حتى قيل إنه أحيى السنة وأمات البدعة![1] فأعلن النصب والعداء لأمير المؤمنين (صلوات الله عليه) ولذريته، وفعل الأفاعيل في سبيل ذلك. ونشط في عهده الفقهاء والرواة ممن هم على خلاف خط أهل البيت (عليهم السلام). وبذلك عاد مسار ثقافة السلطة إلى ما كان عليه في عهد المنصور ومن بعده.

ودونت في قرنه - وهو القرن الثالث - أصول كتب الحديث عند الجمهور وصحاحهم، وشيدت عقيدتهم في تقديم الأولين، وفي عدالة الصحابة عموماً، بما في ذلك معاوية وأمثاله.

وتأكد ذلك عند العامة على مرّ الزمن وتجذر فيهم، بل أغرقوا فيه حتى ربما ضاقت السلطة ببعض مواقفهم وممارساتهم.

ففي سنة مائتين وسبعين للهجرة قضت السلطة على صاحب الزنج. قال العلاء بن صاعد بن مخلد: ((لما حمل رأس صاحب الزنج، ودخل به المعتضد إلى بغداد، دخل في جيش لم يرَ مثلُه، واشتق أسواق بغداد والرأس بين يديه. فلما صرنا بباب الطاق صاح قوم من درب من تلك الدروب: رحم الله معاوية وزاد. حتى علت أصوات العامة بذلك، فتغير وجه المعتضد، وقال: ألا تسمع يا أبا عيسى؟! ما أعجب هذا! وما الذي اقتضى ذكر معاوية في هذا الوقت؟!.

والله لقد بلغ أبي إلى الموت، وما أفلَتّ أنا إلا بعد مشارفته، ولقينا كل جهد وبلاء، حتى أنجينا هؤلاء الكلاب من عدوهم، وحصّنا حرمهم وأولادهم.

فتركوا أن يترحموا على العباس وعبد الله ابنه ومن ولد من الخلفاء، وتركوا الترحم على علي بن أبي طالب وحمزة وجعفر والحسن والحسين!.

والله لا برحت أو أؤثر في تأديب هؤلاء أثراً لا يعاودون بعد هذا الفعل مثله. ثم أمر بجمع النفاطين، ليحرق الناحية.

فقلت له: أيها الأمير. أطال الله بقاءك. إن هذا اليوم من أشرف أيام الإسلام، فلا تفسده بجهل عامة لا خلاق لهم. ولم أزل أداريه، وأرفق به حتى سار))[2].

ويبدو أن ذلك بقي في نفس المعتضد رغم إغراق الجمهور في تقديس الصحابة الأولين ومن سار على نهجهم في نظام الخلافة، نتيجة تأكيد السلطة العباسية وثقافتها العامة عليه في مواجهة أهل البيت (صلوات الله عليهم) وشيعتهم، وخصوصاً معاوية الذي صار رمز العداء الظاهر لهم. وربما كان لإغراق الجمهور هذا بعض الأثر في إثارة حفيظة المعتضد.

فعزم في سنة مائتين وأربع وثمانين على لعن معاوية على المنابر، وأمر بإنشاء كتاب بذلك يقرأ على الناس، فخوفه وزيره عبید الله بن سليمان اضطراب العامة، وأنه لا يأمن أن تكون فتنة، فلم يلتفت إلى ذلك من قوله، وصمم على ما عزم عليه.

وبدأ - في أواخر جمادى الأولى وأوائل جمادى الثانية من السنة المذكورة - بخطوات تمهيدية لمنع العامة من التجمع والشغب وإثارة المشاكل والفتن. وآخر تلك الخطوات منع السقائين الذين يسقون الماء في الجامعين من الترحم على معاوية وذكره بخير.

وتحدث الناس أن الكتاب الذي أمر المعتضد بإنشائه بلعن معاوية يقرأ بعد صلاة الجمعة على المنبر. فلما صلى الناس الجمعة بادروا إلى المقصورة ليسمعوا قراءة الكتاب. فلم يقرأ.

قال الطبري - بعد أن ذكر ذلك - : ((فذكر أن المعتضد أمر بإخراج الكتاب الذي كان المأمون أمر بإنشائه بلعن معاوية، فأخرج له من الديوان، فأخذ من جوامعه نسخة هذا الكتاب، وذكر أنها نسخة الكتاب الذي أنشئ للمعتضد بالله: بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد الله...)) وذكر كتاباً طويلاً يقرب من سبع صفحات يتضمن كثيراً من مثالب الأمويين، وخصوصاً معاوية، مما تضمنته الأحاديث الشريفة والأحداث التاريخية.

ثم قال الطبري بعد أن أنهى الكتاب: ((وذكر أن عبيد الله بن سليمان أحضر يوسف بن يعقوب القاضي، وأمره أن يعمل الحيلة في إبطال ما عزم عليه المعتضد. فمضى يوسف بن يعقوب فكلم المعتضد في ذلك، وقال له: يا أمير المؤمنين، إني أخاف أن تضطرب العامة، ويكون منها عند سماعها هذا الكتاب حركة. فقال: إن تحركت العامة أو نطقت وضعت سيفي فيها.

فقال: يا أمير المؤمنين، فما تصنع بالطالبيين الذين هم في كل ناحية يخرجون، ويميل إليهم كثير من الناس، لقرابتهم من الرسول، ومآثرهم؟! وفي هذا الكتاب إطراؤهم، أو كما قال. وإذا سمع الناس هذا كانوا إليهم أميل. وكانوا في أبسط ألسنة وأثبت حجة منهم اليوم. فأمسك المعتضد، فلم يرد عليه جواباً. ولم يأمر في الكتاب بعده بشيء))[3].

وهكذا يكون الموقف السلبي من الطالبيين وأهل البيت (صلوات الله عليهم) حاجزاً دون بيان الحقائق، ومحفزاً على تحريفها وتشويهها.

كما يتزامن تأكيد السلطة على احترام الأولين ومن هو على خطهم مع ارتفاع مستوى نصبها وعدائها لأهل البيت (صلوات الله عليهم)، بحيث تكون إحدى الظاهرتين قرينة للأخرى، ليتم بهما هدف واحد.

وبذلك تأكد وتركز ما بدأه الأولون، وزاد فيه معاوية، من تفعيل احترام الخط المخالف لأهل البيت (عليهم أفضل الصلاة والسلام). ومن أهم أسبابه افتعال الأحاديث في تقديم الأولين، وفي فضائل الصحابة الذين هم على خطهم.

وعلى كل حال صارت النصوص الكثيرة التي وضعت في عهد معاوية عاضدة لما وضع في العهد الأول، ومشيدة لمضامينه وأهدافه.

وكانت نتيجة ذلك تدين الجمهور بشرعية خلافة الأولين، واحترام رموز الخط المخالف لأهل البيت (صلوات الله عليهم) احتراماً يبلغ حدّ التقديس.

وقد كان لذلك أعظم الأثر في مواجهة أهل البيت (صلوات الله عليهم)، والوقوف في وجه دعوتهم، كما توقعه معاوية، على ما يظهر من كلامه السابق.

وقد صار هذا التدين والتقديس هما العقبة الكؤود أمام دعوى النص، تمنع الجمهور - نوعاً - من مصداقية الرؤية، ومن الموضوعية في البحث عن الحقيقة، ثم الوصول إليها.

بل صارت سبباً للتشنيع على شيعة أهل البيت تشنيعاً قد يصل حدّ التكفير، واستحلت به دماؤهم، وانتهكت حرماتهم ومقدساتهم، على طول التاريخ وإلى يومنا هذا.

وكل ذلك بعين الله تعالى، وإليه يرجع الأمر كله.

ويأتي في المطلب الثاني إن شاء الله تعالى أثر فاجعة الطف في مواجهة هذا الاحترام والتقديس، واقتحام هذه العقبة.

 


[1] راجع تاريخ الإسلام ج: ۱۷ ص: ۱۳ أحداث سنة أربع وثلاثين ومائتين من الهجرة: إظهار المتوكل للسنة، والبداية والنهاية ج: ۱۰ ص: ۳۸۷ أحداث سنة سبع وأربعين ومائتين من الهجرة: في ترجمة المتوكل على الله، وتاريخ بغداد ج: ۷ ص: ۱۸۰ في ترجمة جعفر أمير المؤمنين المتوكل على الله، والوافي بالوفيات ج: ۱۱ ص: ۱۰۱ في ترجمة المتوكل على الله جعفر بن محمد أبي الفضل، وفوات الوفيات ج: 1 ص: ۲۸۹ في ترجمة المتوكل العباسي، وغيرها من المصادر.

[2] شرح نهج البلاغة ج: ۸ ص: ۲۱۲ - ۲۱۳، واللفظ له. نثر الدر ج: ٣ ص: ٩٥-٩٦ الباب الثالث: كلام الخلفاء من بني هاشم المعتضد.

[3] تاريخ الطبري ج: ۸ ص: ۱۸۲ - ١۹۰ في أحداث سنة ٢٨٤هـ.