اعتراف المنصور ومن بعده بشرعية خلافة الأمويين

بل يبدو إغراق المنصور ومن بعده من حكام العباسيين في ذلك، فأخذوا يعترفون بشرعية خلافة الأمويين، بعد أن أمنوا منازعتهم لهم في السلطة. وذلك لتأكيد شرعية الخلافة بالقوة من أجل إضعاف موقف العلويين.

فعن منصور بن أبي مزاحم أنه قال: ((سمعت أبا عبيد الله يقول: دخلت على أبي جعفر المنصور يوماً، فقال: إني أريد أن أسألك عن شيء، فاحلف بالله أنك تصدقني. قال: فرماني بأمر عظيم. فقلت: يا أمير المؤمنين، وأدين الله بغير طاعتك وصدقك؟! أو أستحل أن أكتمك شيئاً علمته؟! فقال: دعني من هذا. والله لتحلفن. قال: فأشار إليّ المهدي أن أفعل. فحلفت.

فقال: ما قولك في خلفاء بني أمية؟ فقلت: وما عسيت أن أقول فيهم. إنه من كان منهم الله مطيعاً، وبكتابه عاملاً، ولسنة نبيه ﷺ متبعاً، فإنه إمام يجب طاعته ومناصحته، ومن منهم على غير ذلك فلا.

فقال: جئت بها - والذي نفسي بيده - عراقية. هكذا أدركت أشياخك من أهل الشام يقولون؟ قلت: لا. أدركتهم يقولون: إن الخليفة إذا استخلف غفر الله له ما مضى من ذنوبه. فقال لي المنصور: إي والله، وما تأخر من ذنوبه.

أتدري ما الخليفة؟ سبيله ما يقام به من الصلاة، ويحج به البيت، ويجاهد به العدو. قال: فعدد من مناقب الخليفة ما لم أسمع أحداً ذكر مثله.

ثم قال: لو عرفت من حق[1] الخلافة في دهر بني أمية ما أعرف اليوم لرأيت من الحق أن آتي الرجل منهم حتى أضع يدي في يده، ثم أقول: مرني بما شئت.

فقال له المهدي: فكان الوليد منهم؟ فقال: قبح الله الوليد ومن أقعد الوليد خليفة. قال: فكان مروان منهم؟ فقال أبو جعفر: مروان؟ الله در مروان. ما كان أحزمه وأمرسه وأعفه عن الفيء. قال: فلِمَ لمتموه وقتلتموه؟ فقال: للأمر الذي سبق في علم الله))[2].

ومراد المهدي بالوليد هو الوليد بن يزيد الخليع الماجن، والذي برر ابن عمه يزيد بن الوليد قتله بإلحاده وأفعاله [3].

لكن قال شبيب بن شيبة: ((كنا جلوساً عند المهدي، فذكروا الوليد، فقال المهدي: كان زنديقاً. فقام أبو علاثة الفقيه، فقال: يا أمير المؤمنين، إن الله عز وجل أعدل من أن يولي خلافة النبوة وأمر الأمة زنديقاً. لقد أخبرني من كان يشهده في ملاعبه وشربه عنه بمروءة في طهارته وصلاته، فكان إذا حضرت الصلاة يطرح الثياب التي عليها المطايب المصبغة، ثم يتوضأ... فإذا فرغ عاد إلى تلك الثياب، فلبسها، واشتغل بشربه ولهوه. فهذا فعال من لا يؤمن بالله؟! فقال المهدي: بارك الله عليك يا أبا علاثة))[4].

ويبدو أن المهدي قد أقنع نفسه بذلك، وجرى عليه. فقد قال البلاذري: ((وقال أمير المؤمنين المهدي وذكر الوليد رحمه الله، ولا رحم قاتله، فإنه كان إماماً مجتمعاً عليه. وقيل له: إن الوليد كان زنديقاً. فقال: إن خلافة الله أعز وأجل من أن يوليها من لا يؤمن به))[5].

وقد دخل على الرشيد ابن للغمر بن يزيد أخي الوليد بن يزيد الأموي المتقدم. ولما عرّف نفسه للرشيد قال له: ((رحم الله عمك الوليد، ولعن يزيد الناقص، فإنه قتل خليفة مجمعاً عليه. ارفع حوائجك)) فرفعها. فقضاها[6].

ويبدو أن ثقافة السلطة العباسية أخذت بهذا الاتجاه وفسح المجال لتمجيد الأمويين في محاولة تعميم هذه الثقافة في الجمهور، كردّ فعل على موقف أهل البيت (صلوات الله عليهم) وشيعتهم السلبي من الأمويين، خصوصاً بعد فاجعة الطف، واستغلال الخلاف المذهبي - في أمر الخلافة واحترام الأولين - بين الشيعة والجمهور لتأكيد ولاء الجمهور للأمويين واحترامهم، مضادة للشيعة.

 


[1] أثبتنا هذه العبارة من تاريخ الإسلام وسير أعلام النبلاء لوجود خلل في هذا الموضع من النص المطبوع من تاريخ دمشق.

[2] تاریخ دمشق ج: ٥٧ ص: ٣٣٣ في ترجمة مروان بن محمد بن مروان بن الحكم، واللفظ له. سير أعلام النبلاء ج: ٦ ص: ٧٦ في ترجمة مروان بن محمد بن عبد الملك بن الحكم بن أبي العاص. تاريخ الإسلام ج: ٨ ص: 535 - 536 في ترجمة مروان بن محمد بن مروان بن الحكم بن أبي العاص وج: ١٠ ص: ٥٥٠ في ترجمة أبي عبيد الله وزير المهدي وكاتبه، إلا أنه لم يذكر كلام المهدي. وغيرها من المصادر.

[3] الكامل في التاريخ ج: 5 ص ۲۹۱ - ۲۹۲ أحداث سنة ست وعشرين ومائة من الهجرة: ذكر بيعة يزيد بن الوليد الناقص. تاريخ الطبري ج: ٥ ص: ٥٧٠ أحداث سنة ست وعشرين ومائة من الهجرة. البداية والنهاية ج: ١٠ ص: ١٥ أحداث سنة ست وعشرين ومائة من الهجرة: خلافة يزيد بن الوليد بن عبد الملك. تاريخ خليفة بن خياط ص: ۲۹۰ أحداث سنة ست وعشرين ومائة من الهجرة: خطبة يزيد بن الوليد طلباً للبيعة. تاريخ الإسلام ج: ٨ ص: ۳۱۱ - ۳۱۲ في ترجمة يزيد بن الوليد بن عبد الملك بن مروان. وغيرها من المصادر.

[4] الكامل في التاريخ ج: ٥ ص: ٢٩١ أحداث سنة ست وعشرين ومائة من الهجرة، واللفظ له. تاریخ ابن خلدون ج: ٣ ص: ١٠٦ مقتل الوئيد وبيعة يزيد. الأغاني ج: ٧ ص: ٨٣ أخبار الوليد بن یزید ونسبه وكنيته: دافع عنه ابن علاثة الفقيه لدى المهدي. نهاية الأرب في فنون الأدب ج: ۲۱ ص: 295 - 296 أحداث سنة (١٢٦) هـ: ذكر مقتل الوليد بن يزيد بن عبد الملك بن مروان وشيء من أخباره. وغيرها من المصادر.

[5] أنساب الأشراف ج: ٩ ص: ١٨٤ خلافة الوليد بن يزيد بن عبد الملك بن مروان: عند ذكر مقتله. وقريب منه في البداية والنهاية ج: ۱۰ ص: ٩ أحداث سنة ست وعشرين ومائة من الهجرة: مقتل الوليد بن يزيد بن عبد الملك، وسير أعلام النبلاء ج: ٥ ص: ۳۷۲ في ترجمة الوليد بن يزيد بن عبد الملك بن مروان، وتاريخ الإسلام ج: ٨ ص: ۲۹۱ في ترجمة الوليد بن يزيد بن عبد الملك بن مروان بن الحكم الخليفة الفاسق، وغيرها من المصادر.

[6] الكامل في التاريخ ج: ٥ ص: ٢٩١ أحداث سنة ست وعشرين ومائة من الهجرة، واللفظ له. تاريخ ابن خلدون ج ٣ ص: ١٠٦ مقتل الوليد وبيعة يزيد. الأغاني ج: ٧ ص: ۸۲ أخبار الوليد بن يزيد ونسبه: لعن الرشيد قاتليه (يزيد الناقص).