ولولا ذلك لما استطاع العباسيون أن يقيموا أساس دعوتهم على استحقاقهم الخلافة بالقرابة، وعلى الطعن في الشيخين، ويصرحوا بعدم شرعية خلافة الأولين في بدء قيام دولتهم.
فقد دخل محمد المهدي بن المنصور العباسي على أبي عون عبد الملك بن يزيد عائداً له في مرضه - وكان من قدماء شيعة بني العباس وحملة دعوتهم والمشاركين في تشييد دولتهم - فأعجبه ما رآه منه وسمعه.
قال أبو جعفر الطبري: ((وقال: أوصني بحاجتك، وسلني ما أردت، واحتكم في حياتك ومماتك... فشكر له أبو عون ودعا، وقال: يا أمير المؤمنين حاجتي أن ترضى عن عبد الله بن أبي عون، وتدعو به، فقد طالت موجدتك عليه. قال: فقال: يا أبا عون إنه على غير الطريق، وعلى خلاف رأينا ورأيك. إنه يقع في الشيخين أبي بكر وعمر، يسيء القول فيهما. قال: فقال أبو عون: هو والله يا أمير المؤمنين على الأمر الذي خرجنا عليه، ودعونا إليه. فإن كان قد بدا لكم فمرونا بما أحببتم، حتى نطيعكم))[1].
ولما انتصر جيش الدعوة العباسية، ودخل الكوفة، وبويع أبو العباس السفاح، تكلم داود بن علي - وهو على المنبر أسفل من أبي العباس بثلاث درجات - فحمد الله وأثنى عليه، وصلى على النبي (صلى الله عليه وآله) ثم قال: ((أيها الناس إنه والله ما كان بينكم وبين رسول الله ﷺ خليفة إلا علي بن أبي طالب وأمير المؤمنين هذا الذي خلفي))[2].
وذكر الأوزاعي في حديث عبد الله بن علي معه لما استولى على الشام وفيه: ((قال: ما تقول في دماء بني أمية؟ فسأل مسألة رجل يريد أن يقتل رجلاً. فقلت: قد كان بينك وبينهم عهود. فقال: ويحك. اجعلني وإياهم لا عهد بيننا. فأجهشت نفسي، وكرهت القتل. فذكرت مقامي بين يدي الله عز وجل، فلفظتها فقلت: دماؤهم عليك حرام. فغضب وانتفخت أوداجه. فقال لي: ويحك ولمَ؟ قلت: قال رسول الله ﷺ: لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: ثيب زان، ونفس بنفس، وتارك لدينه، فقال: ويحك. أو ليس الأمر لنا ديانة؟ قلت: وكيف ذاك؟ قال: أليس كان رسول الله ﷺ أوصى إلى علي؟ قلت: لو أوصى إليه ما حكّم الحكمين. فسكت وقد اجتمع غضباً...))[3].
وخطب أبو مسلم الخراساني في السنة التي حج فيها في خلافة السفاح خطبة طويلة، ومنها قوله: ((ثم جعل الحق بعد محمد عليه السلام في أهل بيته فصبر من صبر منهم بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه على اللأواء والشدة، وأغضى على الاستبداد والأثرة... والله ما اخترتم من حيث اختار الله لنفسه ساعة قط. ومازلتم بعد نبيه تختارون تيمياً مرة، وعدوياً مرة، وأموياً مرة، وأسدياً مرة، وسفيانياً مرة، ومروانياً مرة... ألا إن آل محمد أئمة الهدى ومنار سبيل التقى...))[4].
[1] تاريخ الطبري ج: ٦ ص: ٤٠١ أحداث سنة تسع وستين ومائة من الهجرة: ذكر بعض سير المهدي وأخباره، واللفظ له. تاريخ دمشق ج: ۳۷ ص: ۱۸۱ في ترجمة عبد الملك بن يزيد أبي عون الأزدي.
[2] تاريخ الطبري ج: ٦ ص: ٨٧ أحداث سنة مائة واثنين وثلاثين من الهجرة: خلافة أبي العباس عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس، واللفظ له. الكامل في التاريخ ج: ٥ ص: ٤١٦ أحداث سنة مائة واثنين وثلاثين من الهجرة: ذكر ابتداء الدولة العباسية وبيعة أبي العباس. أنساب الأشراف ج: ٤ ص: ١٨٦ أمر قحطبة. عيون الأخبار ج: ٢ ص: ٢٥٢ كتاب العلم والبيان: الخطب: خطبة لداود بن علي. مروج الذهب ج: ٣ ص: ٢٤٨ - ٢٤٩ ذكر الدولة العباسية ولمع من أخبار مروان ومقتله وجوامع من حروبه وسيره: قول الراوندية في الخلافة. شرح نهج البلاغة ج: ٧ ص: ١٥٥. وغيرها من المصادر.
[3] سير أعلام النبلاء ج: ۷ ص: ۱۲۹ في ترجمة الأوزاعي تاريخ الإسلام ج: ٩ ص: ٤٩٤ في ترجمة الأوزاعي.
[4] شرح نهج البلاغة ج: ٧ ص: ١٦١-١٦٢.