سيرته (عليه السلام) في حروبه صارت سنّة للمسلمين

فكانت بيعة أمير المؤمنين (عليه السلام) وتوليه السلطة ومباشرته لتلك الحروب التي ترتبت على بيعته سبباً في وضوح أحكامها. وصارت سيرته (عليه السلام) فيها علماً للمسلمين.

حتى قال أبو حنيفة: ((ما قاتل أحد علياً إلا وعلي أولى بالحق منه. ولولا ما سار علي فيهم ما علم أحد كيف السيرة في المسلمين))[1]. وسئل عن يوم الجمل، فقال: ((سار علي فيه بالعدل، وهو علّم المسلمين السنّة في قتال أهل البغي))[2].

وقال تلميذه محمد بن الحسن: ((لو لم يقاتل معاوية علياً ظالماً له متعدياً باغياً كنا لا نهتدي لقتال أهل البغي))[3].

وقال الشافعي: ((لولا علي لما عُرف شيء من أحكام أهل البغي))[4].

ولما أنكر يحيى بن معين على الشافعي استدلاله بسيرة أمير المؤمنين (صلوات الله عليه) في قتال البغاة، وقال: ((أيجعل طلحة والزبير بغاة ؟!)) ردّ عليه أحمد بن حنبل وقال: ((ويحك! وأي شيء يسعه أن يضع في هذا المقام؟!)). وقال ابن تيمية: ((يعني: إن لم يقتد بسيرة علي في ذلك لم يكن معه سنة من الخلفاء الراشدين في قتال البغاة)) [5].

وقد أوضح أمير المؤمنين (صلوات الله عليه) بسيرته وأقواله في تلك الحروب أمرين:

إسلام الباغي يعصمه من الرق ويعصم ماله

أولهما: أن الباغي وإن هدر دمه دفعاً لشره، إلا أن إسلامه يعصمه من الرق، ويعصم ماله الذي لم يقاتل به[6]، أو جميع ماله حتى ما قاتل به[7]. وليس هو كالكافر في ذلك.

وقد سبب ذلك له (عليه السلام) إحراجاً في واقعة الجمل، لأن المسلمين لم يعهدوا التفريق بين الأمرين في حروبهم. إلا أنه استطاع أن يقنعهم حينما قال: ((فأقرعوا على عائشة، لأدفعها إلى من تصيبه القرعة)). فعرفوا خطأهم، وقالوا: ((نستغفر الله يا أمير المؤمنين))[8].

وهذا من مظاهر أمانته (صلوات الله عليه) واهتمامه بتطبيق أحكام الله عز وجل. فهو لم يندفع في الانتقام من محاربيه شفاء لغيظه وتحكيماً لعاطفته، بل وقف عند الحكم الشرعي، لا من أجل مجاراة الناس، فإنهم يجهلون الحكم المذكور، بل قياماً بوظيفته الشرعية، وأداء لأمانته وما عهد إليه من تعريف الأمة بدينها، وإن سبّب ذلك إحراجاً له مع عسكره.

كما أنه صار سبباً لزهد الناس في الجهاد معه في تلك الحروب التي بها تقرير مصير حكمه وتثبيت سلطته، لأن من أهمّ دواعي الجهاد عند عامة الناس هو الفوز بالغنائم والاستكثار منها.

والسلطة من بعده (عليه السلام) وإن خرجت عن ذلك بسبب انحرافها، كما هو المعلوم بأدنى مراجعة للتاريخ، وأشرنا إلى بعض ذلك في المبحث الأول عند عرض نماذج من الانحراف في العهد الأموي، إلا أن سيرته (عليه السلام) صارت سبباً لظهور جور السلطة في سيرتها، وهو مكسب عظيم للإسلام، حيث ظهرت براءته من تلك السيرة الجائرة.

سقوط حرمة الباغي وانقطاع العصمة معه

ثانيهما: التأكيد على بغي الخارج على الإمام الحق، وسقوط حرمته، وخروجه عن ضوابط الإيمان والإسلام الحق، مهما كان شأنه الديني والاجتماعي، كما يشير إلى ذلك ما يأتي عن النبي (صلى الله عليه وآله) في الفتنة.

وقال أمير المؤمنين (صلوات الله عليه): ((أنا فقأت عين الفتنة. لم يكن ليجترئ عليها غيري. ولو لم أك فيكم ما قوتل أصحاب الجمل وأهل النهروان...))[9].

وفي كتاب له (عليه السلام) إلى معاوية: ((وإن طلحة والزبير بايعاني، ثم نقضا بيعتي. وكان نقضهما كردتهما، فجاهدتهما على ذلك حتى جاء الحق وظهر أمر الله وهم كارهون...))[10].

ولما أرادوا كتابة عهد التحكيم بعد حرب صفين قيل له (عليه السلام): ((أتقر أنهم مؤمنون مسلمون؟ فقال (صلوات الله عليه): ((ما أقر المعاوية ولا لأصحابه أنهم مؤمنون ولا مسلمون، ولكن يكتب معاوية ما شاء لنفسه وأصحابه، ويسمي نفسه وأصحابه ما شاء))[11].

بل ليس سقوط حرمة الباغي بهدر دمه فقط، كالزاني المحصن، بل ورد عنه (عليه السلام) ما يناسب انقطاع العصمة بين الباغي وأهل الحق، فلا تجري عليه أحكام المسلمين بعد القتل مراسيم التجهيز الشرعية[12]، كما تجري على المسلمين.

وعلى هذا يبتني حديث الإمام الحسين (صلوات الله عليه) مع معاوية.

قال اليعقوبي بعد أن ذكر مقتل حجر بن عدي الكندي وجماعته (رضوان الله عليهم): ((وقال معاوية للحسين بن علي (عليهما السلام): يا أبا عبد الله علمت أنا قتلنا شيعة أبيك، فحنطناهم وكفناهم وصلينا عليهم ودفناهم. فقال الحسين: حججتك ورب الكعبة. لكنا والله إن قتلنا شيعتك ما كفناهم، ولا حنطناهم ولا صلينا عليهم ولا دفناهم [13].

وقيل: ((ولما بلغ الحسن البصري قتل حجر وأصحابه قال: أصلوا عليهم وكفنوهم، ودفنوهم واستقبلوا بهم القبلة؟ قالوا: نعم. قال: حجوهم ورب الكعبة))[14].

حيث يظهر من ذلك أن إجراء السلطان أحكام الإسلام على من يقتله ممن لا يعترف بشرعية سلطته يكون حجة للمقتول على السلطان، لأنه لا يجتمع مع شرعية قتله له، وأن القتل والقتال من الإمام لمناوئيه متى كان بحق ولم يكن تعدياً أوجب انقطاع العصمة بينهما، وسقوط الحرمة.

وقد صرّح بذلك زهير بن القين (رضوان الله عليه) في خطبته على عسكر الأمويين قبيل معركة الطف، حيث قال: ((يا أهل الكوفة نذار لكم من عذاب الله نذار. إن حقاً على المسلم نصيحة أخيه المسلم. ونحن حتى الآن أخوة، وعلى دين واحد، وملة واحدة، ما لم يقع بيننا وبينكم السيف، وأنتم للنصيحة منا أهل. فإذا وقع السيف انقطعت العصمة، وكنا أمة وأنتم أمة...))[15].

وبذلك يظهر موقف أمير المؤمنين (صلوات الله عليه) من جميع من قاتله في حروبه، ونظرته إليهم، وتقييمه لهم.

 


[1] بغية الطلب في تاريخ حلب ج: ١ ص: ۲۹۱ باب في ذكر صفين..... الفصل الثاني في بيان أن عليا على الحق في قتاله معاوية، واللفظ له. مناقب أبي حنيفة للخوارزمي ج: ٢ ص: ۸۳ الباب الرابع والعشرون في ذكر ألفاظ جرت على لسانه فصارت أمثالاً بين الناس. مناقب أبي حنيفة للكردري ج: ۲ ص ۷۱.

[2] مناقب أبي حنيفة للخوارزمي ج: ٢ ص: ٨٤ الباب الرابع والعشرون في ذكر ألفاظ جرت على لسانه فصارت أمثالاً بين الناس. مناقب أبي حنيفة للكردري ج: ٢ ص: ٧٢.

[3] الجواهر المضية في طبقات الحنفية ج: ٢ ص: ٢٦ في ترجمة محمد بن أحمد بن موسى بن داود الرازي البرزاني.

[4] شرح نهج البلاغة ج: ٩ ص: ۳۳۱.

[5] مجموع الفتاوى ج: ٤ ص: ٤٣٨ مفصل اعتقاد السلف: فصل في أعداء الخلفاء الراشدين والأئمة الراشدين.

[6] شرح نهج البلاغة ج: ١ ص: ٢٥٠. جامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر ج: ٢ ص: ١٠٥. المصنف لابن أبي شيبة ج: ۸ ص: ۷۱۰ كتاب الجمل: مسير عائشة وعلي وطلحة والزبير. الدراية لابن حجر ج: ۲ ص: ۱۳۹ باب البغاة. المحلى ج: ۱۱ ص: ۱۰۳ حكم قتل أهل البغي. كنز العمال ج: ١١ ص: ٣٣٦ ح: ٣١٦٧٦، ٣١٦٧٧. وغيرها من المصادر.

[7] جواهر الكلام ج: ٢١ ص: ٣٣٩-٣٤١.

[8] شرح نهج البلاغة ج: ١ ص: ٢٥١، واللفظ له. جامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر ج: ۲ ص: ١٠٥، المصنف لابن أبي شيبة ج: ٨ ص: ۷۱۰ كتاب الجمل: مسير عائشة وعلي وطلحة والزبير. الدراية لابن حجر ج: ۲ ص: ۱۳۹ باب البغاة. المحلى ج: ۱۱ ص: ۱۰۳ حكم قتل أهل البغي. كنز العمال ج: ١١ ص: ٣٣٦ ح: ٣١٦٧٦، ٣١٦٧٧. نصب الراية ج: ٤ ص: ٣٦٣ باب البغاة: وصية سيدنا علي (كرم الله وجهه) يوم الجمل والحديث في ذلك. وغيرها من المصادر.

[9] بحار الأنوار ج: ٣٣ ص: ٣٦٦، واللفظ له. كتاب السنة لعبد الله بن أحمد ج: ٢ ص: ٦٢٧. حلية الأولياء ج: ٤ ص: ١٨٦ في ترجمة علي بن أبي طالب. السنن الكبرى للنسائي ج: ٥ ص: ١٦٥ كتاب المناقب: ذكر ما خص به علي من قتال المارقين: ثواب من قاتلهم، إلا إنه ذكر أهل النهروان ولم يذكر أهل الجمل بينما ذكرهم في كتاب خصائص أمير المؤمنين ص: ١٤٦ ما خص به علي من قتال المارقين. المصنف لابن أبي شيبة ج: ٨ ص: ٦٩٨ كتاب المغازي: ما ذكر في عثمان، إلا إنه كنى عن عائشة وطلحة والزبير بـ (فلان وفلان وفلان). كنز العمال ج: ۱۱ ص: ٢٩٨ ح: ٣١٥٦٥. تاریخ اليعقوبي ج:٢ ص: ۱۹۳ خلافة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب. كتاب سليم بن قيس ص: ٢٥٦. وغيرها من المصادر.

وروي مبتوراً في علل الدار قطني ج: ٤ ص: ٢٣ مسند علي بن أبي طالب، تاريخ دمشق ج: ٤٢ ص: ٤٧٤ في ترجمة علي بن أبي طالب.

[10] شرح نهج البلاغة ج: ٣ ص: ٧٥، واللفظ له، ج: ١٤ ص: ٣٦. الإمامة والسياسة ج: ١ ص: ٨٠ كتاب علي إلى معاوية مرة ثانية. تاريخ دمشق ج: ٥٩ ص: ۲۸ في ترجمة معاوية بن صخر أبي سفيان. العقد الفريد ج: ٤ ص: 306 فرش كتاب العسجدة الثانية في الخلفاء وتواريخهم وأخبارهم: خلافة علي بن أبي طالب (رضي الله عنه): أخبار علي ومعاوية. وقعة صفين ص: ۲۹. المناقب للخوارزمي ص: ٢٠٢، وغيرها من المصادر.

[11] وقعة صفين ص: ٥٠٩-٥١٠، واللفظ له. شرح نهج البلاغة ج ۲ ص: ۲۳۳. ينابيع المودة ج: ٢ ص: ۲۰.

[12] تاريخ الطبري ج: ٤ ص: ٦٦ أحداث سنة سبع وثلاثين من الهجرة: ذكر ما كان من خير الخوارج. الكامل في التاريخ ج: ٣ ص: ٣٤٨ أحداث سنة سبع وثلاثين من الهجرة: ذكر مقتل ذي الثدية. تاریخ ابن خلدون ج: ۲ ق: ۲ ص: ۱۸۱ أمر الخوارج وقتاهم.

[13] تاريخ اليعقوبي ج: ۲ ص: ۲۳۱ وفاة الحسن بن علي، واللفظ له. الاحتجاج ج ۲ ص: ۱۹. وسائل الشيعة ج: ٢ ص: ٧٠٤ باب: ١٨ من أبواب تغسيل الميت ح: ٣.

[14] الكامل في التاريخ ج: ٣ ص: ٤٨٦ أحدث سنة إحدى وخمسين من الهجرة: ذكر مقتل حجر بن عدي وعمرو بن الحمق الخزاعي وأصحابها، واللفظ له. تاريخ دمشق ج: ٨ ص: ۲۷ في ترجمة أرقم بن عبد الله الكندي. تاريخ الطبري ج: ٤ ص: ٢٠٧ أحدث سنة إحدى وخمسين من الهجرة: تسمية من قتل من أصحاب حجر(رحمه الله).

[15] تاريخ الطبري ج: ٤ ص: ٣٢٣، ٣٢٤. وتقدمت مصادره في أوائل الفصل الأول من المقصد الثاني فيها جناه الدين من ثمرات فاجعة الطف.