فمنهم من أصحر بالحقيقة، وتحمل في سبيل ذلك ما تحمل من تشنيع وتهريج وتكذيب. بل كثيراً ما يصل الأمر لانتهاك حرمة العرض والمال والدم، مثل حجر بن عدي وأصحابه وميثم التمار وعمرو بن الحمق الخزاعي وغيرهم ممن سجل التاريخ مواقفهم ومواقف خصومهم معهم، وغيرهم ممن أهمل التاريخ أمرهم أو لم يركز عليهم، وهم كثير.
ومنهم من لم يصحر بالحقيقة، ولكن حاول نشرها بوجه غير ملفت للنظر، حيث استطاع فرض احترامه على الجمهور بتدينه وصدق حديثه وأمانته، ثم بمجاراة الجمهور وعدم إعلان ما يستفزهم من أحاديث وعقائد.
واقتصر في بيان الحقيقة ونشرها تدريجاً وسراً على من يتقبلها، بنحو لا يستفز الخط الآخر، ولا يتعرض لرد الفعل من جهته، حتى انتشر كثير من الأحاديث الدالة على رفعة مقام أهل البيت (صلوات الله عليهم)، وثبوت حقهم، وجريمة خصومهم وعدوانهم بنحو تقوم به الحجة ويرتفع به عذر الجهل والغفلة.
ومن الطريف ما ذكروه في ترجمة أبي الأزهر أحمد بن الأزهر العبدي النيسابوري. قال الذهبي: وهو ثقة بلا تردد. غاية ما نقموا عليه ذاك الحديث في فضل علي (رضي الله عليه). ولا ذنب له فيه... وقال ابن عدي: أبو الأزهر هذا كتب الحديث فأكثر، ومن أكثر لابد من أن يقع في حديثه الواحد والاثنان والعشرة مما ينكر... .
قال الحاكم: حدثنا أبو علي محمد بن علي بن عمر المذكر: حدثنا أحمد بن الأزهر: حدثنا عبد الرزاق: أخبرنا معمر عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة عن ابن عباس، قال: نظر رسول الله ﷺ إلى علي بن أبي طالب فقال: أنت سيد في الدنيا سيد في الآخرة. حبيبك حبيبي وحبيبي حبيب الله، وعدوك عدوي وعدوي عدو الله. فالويل لمن أبغضك بعدي.
قال الحاكم: حدث به ببغداد فأنكره من أنكره حتى تبين للجماعة أن أبا الأزهر بريء الساحة منه، فإن محله محل الصادقين. وقد توبع عليه عن عبد الرزاق، فحدثني عبد الله بن سعد: حدثنا محمد بن حمدون: حدثنا محمد بن علي بن سفيان النجار: حدثنا عبد الرزاق. فذكره.
وسمعت أبا علي الحافظ سمعت أحمد بن يحيى بن زهير يقول: لما حدث أبو الأزهر بحديثه عن عبد الرزاق في الفضائل أخبر يحيى بن معين بذلك، فبينما هو عند يحيى في جماعة أهل الحديث إذ قال يحيى: من هذا الكذاب النيسابوري الذي حدث بهذا عن عبد الرزاق؟! فقام أبو الأزهر فقال: هو ذا أنا. فتبسم يحيى بن معين وقال: أما إنك لست بكذاب. وتعجب من سلامته، وقال: الذنب لغيرك فيه)).
قال الذهبي: سمعت أبا أحمد الحافظ يقول: سمعت أبا أحمد ابن الشرقي وسئل عن حديث ابن الأزهر عن عبد الرزاق في فضل علي، فقال: هذا حديث باطل. ثم قال: والسبب فيه أن معمراً كان له ابن أخ رافضي، وكان معمراً يمكنه من كتبه، فأدخل هذا عليه. وكان معمر رجلاً مهيباً لا يقدر عليه أحد في السؤال والمراجعة، فسمعه عبد الرزاق في كتاب ابن أخي معمر. قلت: ولتشيع عبد الرزاق سرّ بالحديث وكتبه... ولكنه ما جسر أن يحدث به لمثل أحمد بن معين وعلي، بل ولا خرّجه في تصانيفه، وحدث به وهو خائف يترقب.
قال الحاكم: سمعت أحمد بن حامد البزاز: سمعت مكي بن عبدان: سمعت أبا الأزهر يقول: خرج عبد الرزاق إلى قريته، فبكّرت إليه يوماً حتى خشيت على نفسي من البكور. قال: فوصلت إليه قبل أن يخرج لصلاة الصبح، فلما خرج رآني. فقال: كنت البارحة ههنا؟ قلت: لا، ولكني خرجت في الليل، فأعجبه ذلك. فلما فرغ من صلاة الصبح دعاني وقرأ عليّ هذا الحديث وخصني به دون أصحابي.
وقال أبو محمد بن الشرقي: حدثنا أبو الأزهر. قال: كان عبد الرزاق يخرج إلى قرية. فذهبت خلفه فرآني اشتد، فقال تعال، فأركبني خلفه على البغل. ثم قال لي: ألا أحدثك بحديث غريب؟ قلت: بلى، فحدثني بالحديث. فذكره. قال: فلما رجعت إلى بغداد أنكر عليّ يحيى بن معين وهؤلاء. فحلفت أني لا أحدث به حتى أتصدق بدرهم[1].
وهذا نموذج يكشف عن محنة الشيعة في تلك العصور. وإذا كان الموقف هكذا في مثل هذا الحديث الذي لا يتضمن طعناً صريحاً في الأولين، ومن مثل عبد الرزاق الصنعاني الذي فرض احترامه على الجمهور. فكيف يكون الحال في غير هما؟! [2].
وبالجملة: كانت نتيجة جهود أمير المؤمنين (عليه السلام) وخاصة أصحابه ظهور دعوة التشيع لأهل البيت (صلوات الله عليهم) المبتنية على أن الإمامة والخلافة حق يختص بهم. تبعاً للنص عليهم من الله عز وجل ورسوله الأمين (صلى الله عليه وآله). وهي تعتمد على الاستدلال والبرهان.
وذلك في مقابل ما كان عليه الجمهور من عدم اختصاص الإمامة والخلافة بأهل البيت (صلوات الله عليهم). وهو مدعوم باحترام الأولين احتراماً قد يبلغ حدّ التقديس، بحيث يكون ديناً يتدين به، نتيجة العوامل التي سبق ويأتي إن شاء الله تعالى التعرض لها.
[1] سير أعلام النبلاء ج: ١٢ ص: ٣٦٤ - ٣٦٨. وذكر بعض ما تقدم في تاريخ بغداد ج: ٤ ص: ٤٢، وفي تهذيب الكمال ص: ٢٦٠.
[2] من الجدير بالذكر أن عبد الرزاق الصنعاني شيعي إمامي يكتم إيمانه. قال النجاشي في ترجمة محمد بن أبي بكر همام بن سهيل الكاتب: ((شيخ أصحابنا ومتقدمهم. له منزلة عظيمة كثير الحديث. قال أو محمد هارون بن موسى (رحمه الله): حدثنا محمد بن همام قال: حدثنا محمد بن ما بنداذ. قال: أسلم أبي أول من أسلم من أهله وخرج عن دين المجوسية، وهداه الله إلى الحق. فكان يدعو أخاه سهيلاً إلى مذهبه. فيقول له: يا أخي أعلم أنك لا تألوني نصحاً، ولكن الناس مختلفون، فكل يدعي أن الحق فيه، ولست أختار أن أدخل في شيء إلا على يقين.
فمضت لذلك مدة. وحج سهيل فلما صدر من الحج قال لأخيه: الذي كنت تدعوني إليه هو الحق. قال: وكيف علمت ذاك؟ قال: لقيت في حجي عبد الرزاق بن همام الصنعاني. وما رأيت أحداً مثله. فقلت له على خلوة: نحن قوم من أولاد الأعاجم، وعهدنا في الإسلام قريب. وأرى أهله مختلفين في مذاهبهم. وقد جعلك الله من العلم بما لا نظير لك فيه في عصرك ولا مثل. وأريد أن أجعلك حجة فيما بيني وبين الله عز وجل. فإن رأيت أن تبين لي ما ترضاه لنفسك من دين، لأتبعك فيه وأقلدك. فأظهر لي محبة آل رسول الله (صلى الله عليه وآله) وتعظيمهم والبراءة من عدوهم، والقول بإمامتهم. رجال النجاشي ص: ٣٧٩ رقم الترجمة: ١٠٣٢.
وهكذا كانت محنة أهل الحق. فجزى الله تعالى هذا الرجل وأمثاله خير الجزاء عن الحق وأهله. وإنا لله وإنا إليه راجعون.