إيضاحه (عليه السلام) للمراد من الجماعة التي يجب لزومها

كما أنه (عليه أفضل الصلاة والسلام) أوضح أن المراد بالجماعة التي لا يجوز الخروج عنها هي جماعة الحق التي تعتصم بأئمة الحق (صلوات الله عليهم)، وهو (عليه السلام) أولهم.

ففي حديث عبد الله بن الحسن قال: ((كان علي يخطب، فقام إليه رجل، فقال: يا أمير المؤمنين أخبرني من أهل الجماعة؟ ومن أهل الفرقة؟ ومن أهل السنة؟ ومن أهل البدعة؟ فقال: ويحك أما إذ سألتني فافهم عني، ولا عليك أن تسأل عنها أحداً بعدي. فأما أهل الجماعة فأنا ومن اتبعني وإن قلوا. وذلك الحق عن أمر الله وأمر رسوله. فأما أهل الفرقة فالمخالفون لي ومن اتبعهم وإن كثروا...))[1].

وهو كالصريح من قول النبي (صلى الله عليه وآله) عندما خطب في مسجد الخيف: ((ثلاث لا يغل عليهن قلب امرئ مسلم: إخلاص العمل لله، والنصيحة لأئمة المسلمين، واللزوم لجماعتهم. فإن دعوتهم محيطة من ورائهم...))[2]. إذ بعد أن كانت الإمامة الحقة في أهل البيت (صلوات الله عليهم) - على ما ثبت في محله - فجماعة أئمة المسلمين هم جماعة أئمة أهل البيت، دون غيرهم من الفرق.

ويناسبه ما عن الثعلبي بسنده عن عبد الله البجلي قال: ((قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): من مات على حب آل محمد مات شهيداً... ألا ومن مات على حب آل محمد مات على السنة والجماعة...))[3].

كما أنه الأنسب بما عن النبي (صلى الله عليه وآله) حينما سأله رجل عن جماعة أمته، فأجابه بقوله: ((جماعة أمتي أهل الحق وإن قلوا))[4].

وما عن عمرو بن میمون قال: ((صحبت معاذاً باليمن ... ثم صحبت بعده أفقه الناس عبد الله بن مسعود، فسمعته يقول: عليكم بالجماعة، فإن يد الله على الجماعة، ويرغّب في الجماعة. ثم سمعته يوماً من الأيام وهو يقول: سيلي عليكم ولاة يؤخرون الصلاة عن مواقيتها. فصلوا الصلاة لميقاتها، فهو الفريضة، وصلوا معهم، فإنها لكم نافلة. قال: قلت: يا أصحاب محمد ما أدري ما تحدثوا. قال: وما ذاك؟ قلت: تأمرني بالجماعة وتحضني عليها، ثم تقول لي: صل الصلاة وحدك... قال: يا عمرو بن ميمون قد كنت أظنك أفقه أهل هذه القرية. تدري ما الجماعة؟ قال: قلت: لا. قال: إن جمهور الجماعة الذين فارقوا الجماعة. الجماعة ما وافق الحق وإن كنت وحدك)). وفي طريق للحديث آخر: ((الجماعة ما وافق طاعة وإن كنت وحدك))[5].

وبالجملة: قد أوضح أمير المؤمنين (صلوات الله عليه) في أيام حكمه القليلة كثيراً من الحقائق الدينية التي كان عامة المسلمين في غفلة عنها.

 


[1] كنز العمال ج: ١٦ ص: ١٨٣ - ١٨٤ ح: ٤٤٢١٦، واللفظ له. الاحتجاج ج: ١ ص: ٢٤٦.

[2] تقدمت مصادره في أوائل المبحث الأول عند الكلام في وجوب طاعة الإمام وموالاته والنصيحة له.

ويحسن إثبات ما رواه في الكافي ج: ١ ص: ٤٠٣:

قال: ((محمد بن الحسن عن بعض أصحابنا عن علي بن الحكم عن الحكم بن مسكين عن رجل من قريش من أهل مكة قال: قال سفيان الثوري: اذهب بنا إلى جعفر بن محمد. قال: فذهبت معه إليه، فوجدناه قد ركب دابته، فقال له سفيان: يا أبا عبد الله حدثنا بحديث خطبة رسول الله (صلى الله عليه وآله) في مسجد الخيف... قال: فنزل، فقال له سفيان: مرلي بدواة وقرطاس، حتى أثبته، فدعا به، ثم قال: اكتب: بسم الله الرحمن الرحيم. خطبة رسول الله (صلى الله عليه وآله) في مسجد الخيف: ((نضر الله عبداً سمع مقالتي فوعاها، وبلغها من لم تبلغه.... ثلاث لا يغل عليهن قلب امرئ مسلم: إخلاص العمل لله، والنصيحة لأئمة المسلمين، واللزوم الجماعتهم، فإن دعوتهم محيطة من ورائهم...)) فكتبه سفيان، ثم عرضه عليه، وركب أبو عبد الله (عليه السلام).

وجئت أنا وسفيان، فلما كنا في بعض الطريق قال لي: كما أنت حتى أنظر في هذا الحديث. فقلت له: قد والله ألزم أبو عبد الله رقبتك شيئاً لا يذهب من رقبتك أبداً. فقال: وأي شيء ذلك؟

فقلت له: ثلاث لا يغل عليهن قلب امرئ مسلم: إخلاص العمل لله قد عرفناه، والنصيحة لأئمة المسلمين. من هؤلاء الأئمة الذين يجب علينا نصيحتهم؟! معاوية بن أبي سفيان ويزيد بن معاوية ومروان بن الحكم وكل من لا تجوز شهادته عندنا، ولا تجوز الصلاة خلفهم؟!.

وقوله: واللزوم لجماعتهم. فأي الجماعة؟! مرجئ يقول: من لم يصلّ ولم يصم ولم يغتسل من جنابة وهدم الكعبة ونكح أمه فهو على إيمان جبرئيل وميكائيل؟! أو قدري يقول: لا يكون ما شاء الله عز وجل، ويكون ما شاء إبليس؟! أو حروري يتبرأ من علي بن أبي طالب وشهد عليه بالكفر؟! أو جهمي يقول: إنما هي معرفة الله وحده ليس الإيمان شيء غيرها؟! قال: ويحك وأي شيء يقولون؟ قلت: يقولون إن علي بن أبي طالب والله الإمام الذي يجب علينا نصیحته، ولزوم جماعتهم أهل بيته. قال: فأخذ الكتاب فخرقه، ثم قال: لا تخبر بها أحداً)).

[3] العمدة لابن البطريق ص: ٥٤ تخريج الأحاديث والآثار للزيلعي ج: ۳ ص: ۲۳۸. تفسير الكشاف ج: ٣ ص: ٤٦٧ في تفسير قوله تعالى: (قل لا أسألكم عليه أجراً إلا المودة في القربي). تفسير الرازي ج: ٢٧ ص: ١٦٦ في تفسير الآية المتقدمة. تفسير القرطبي ج: ١٦ ص: ٢٣ في تفسير الآية المتقدمة. ينابيع المودة ج ۱ ص: ۹۱، ج ۲ ص: ٣٣٣، ج: ٣ ص: ١٤٠. الطرائف في معرفة مذاهب الطوائف ص: ١٥٩ - ١٦٠ - سعد السعود ص: ١٤١. وغيرها من المصادر الكثيرة.

[4] المحاسن للبرقي ج: ۱ ص ۲۲۰. معاني الأخبار ص: ١٥٤. تحف العقول عن آل الرسول ص: ٣٤ مواعظ النبي (صلى الله عليه وآله) وحكمه.

[5] تاریخ دمشق ج: ٤٦ ص: ٤٠٩ في ترجمة عمرو بن ميمون، واللفظ له. تهذيب الكمال ج: ۲۲ ص: ٢٦٤-٢٦٥ في ترجمة عمرو بن ميمون النصائح الكافية ص: ٢١٩.