اصطفاء أهل البيت (عليهم السلام) وتميزهم عن غيرهم

الأمر الثاني: أن جمهور المسلمين كانوا في غفلة عن مقام أهل البيت (صلوات الله عليهم) كما أشار لذلك أمير المؤمنين (عليه السلام) في كلامه المتقدم في تقييم الأوضاع في أوائل المطلب الأول فحاول (صلوات الله عليه) في مناسبات مختلفة وكلام كثير كشف الحقيقة والتأكيد على رفعة مقامهم وتميزهم عن عامة الناس بما يناسب اصطفاء الله سبحانه وتعالى لهم وقدسيتهم وعصمتهم وقد تضمن كتاب نهج البلاغة الذي يسهل الرجوع له نماذج منه تلفت النظر، كقوله (عليه السلام) في بيان حال عامة المسلمين: ((قد خاضوا بحار الفتن، وأخذوا بالبدع دون السنن، وأرَز المؤمنون، ونطق الضالون المكذبون. نحن الشعار، والأصحاب، والخزنة، والأبواب. لا تؤتى البيوت إلا من أبوابها، فمن أتاها من غير أبوابها سمي سارقاً...)) إلى أن قال في حق أهل البيت (عليهم السلام): ((فيهم كرائم القرآن، وكنوز الرحمن، إن نطقوا صدقوا وإن صمتوا لم يُسبَقوا...))[1].

وقال في كتاب له إلى معاوية جواباً على كتابه: ((وزعمت أن أفضل الناس في الإسلام فلان وفلان، فذكرت أمراً إن تم اعتزلك كله، وإن نقص لم تلحقك ثلمته... وإنك لذهاب في التيه رواغ عن القصد. ألا ترى غير مخبر لك، ولكن بنعمة الله أحدث أن قوماً استشهدوا في سبيل الله من المهاجرين ولكل فضل حتى إذا استشهد شهيدنا قيل: سيد الشهداء، وخصه رسول الله (صلى الله عليه وآله) بسبعين تكبيرة عند صلاته عليه. أو لا ترى أن قوماً قطعت أيديهم في سبيل الله ولكل فضل حتى إذا فعل بواحدنا ما فعل بواحدهم قيل: الطيار في الجنة، وذو الجناحين؟ ولولا ما نهى الله عنه من تزكية المرء نفسه لذكر ذاكر فضائل جمة تعرفها قلوب المؤمنين، ولا تمجها آذان السامعين. فدع عنك من مالت به الرمية، فإنا صنائع ربنا والناس بعد صنائع لنا...))[2].

وقال (عليه السلام) في خطبة له يذكر فيها أهل البيت (عليهم السلام): ((هم عيش العلم وموت الجهل يخبركم حلمهم عن علمهم وصمتهم عن حكم منطقهم، لا يخافون الحق ولا يختلفون فيه. هم دعائم الإسلام وولائج الاعتصام. بهم عاد الحق إلى نصابه وانزاح الباطل عن مقامه، وانقطع لسانه عن منبته. عقلوا الدين عقل وعاية ورعاية، لا عقل سماع ورواية، فإن رواة العلم كثير ورعاته قليل))[3].

وقال (عليه السلام): ((نحن النمرقة الوسطى، بها يلحق التالي وإليها يرجع الغالي))[4].

وقال (عليه السلام): ((الزموا الأرض واصبروا على البلاء، ولا تحركوا بأيديكم وسيوفكم في هوى ألسنتكم، ولا تستعجلوا بما لم يعجله الله لكم، فإنه من مات منكم على فراشه، وهو على معرفة من ربه وحق رسوله وحق أهل بيته، مات شهيداً، ووقع أجره على الله، واستوجب ثواب ما نوى من صالح عمله، وقامت النية مقام إصلاته لسيفه. وإن لكل شيء مدة وأجلاً))[5].

بل قد يعرض (عليه السلام) بمن يحاول تجاهل مقامهم وادعاء بعض منازل الكمال لغيرهم، كقوله (عليه السلام): ((قد زرعوا الفجور وحصدوا الثبور. لا يقاس بآل محمد (صلى الله عليه وآله) من هذه الأمة أحد، ولا يسوى بهم من جرت نعمتهم عليه أبداً. هم أساس الدين وعماد اليقين. إليهم يفيء الغالي، وبهم يلحق التالي. ولهم خصائص حق الولاية، وفيهم الوصية والوراثة. الآن إذ رجع الحق إلى أهله ونقل إلى منتقله))[6].

وقوله (عليه السلام): ((أين الذين زعموا أنهم الراسخون في العلم دوننا، كذباً وبغياً علينا، أن رفعنا الله ووضعهم، وأعطانا وحرمهم، وأدخلنا وأخرجهم. بنا يستعطى الهدى، ويستجلى العمى. إن الأئمة من قريش غرسوا في هذا البطن من هاشم، لا تصلح على سواهم، ولا تصلح الولاة من غيرهم))[7].

قال ابن أبي الحديد: ((قوله (عليه السلام): أين الذين زعموا. هذا الكلام كناية وإشارة إلى قوم من الصحابة كانوا ينازعونه الفضل. فمنهم من كان يدعى له أنه أفرض، ومنهم من كان يدعى له أنه أقرأ، ومنهم من كان يدعى له أنه أعلم بالحلال والحرام. هذا مع تسليم هؤلاء له أنه (عليه السلام) أقضى الأمة، والقضاء يحتاج إلى كل هذه الفضائل، وكل واحدة منها لا تحتاج إلى غيرها، فهو إذن أجمع للفقه وأكثرهم احتواءً عليه. إلا أنه (عليه السلام) لم يرض بذلك، ولم يصدق الخبر الذي قيل: أفرضكم فلان، إلى آخره، فقال: إنه كذب وافتراء، حمل قوماً على وضعه الحسد لهذا الحي من بني هاشم، أن رفعهم الله على غيرهم، واختصهم دون من سواهم))[8].

بل تعرض (صلوات الله عليه) لقضية لها أهميتها في العقيدة الحقة، وهي عدم خلوّ الأرض من إمام حجة على الناس، ولو كان خائفاً مجهولاً، بنحو يناسب عقيدة الشيعة الإمامية الاثنى عشرية في الحجة المنتظر (عجل الله تعالى فرجه) يقول (عليه السلام) في ضمن كلام له طويل مع كميل بن زياد في شأن العلم: ((كذلك يموت العلم بموت حامليه. اللهم بلى لا تخلو الأرض من قائم له بحجة، إما ظاهراً مشهوراً أو خائفا مغموراً، لئلا تبطل حجج الله وبيناته)).

وكلامه (عليه السلام) في التنبيه لضياع الحقيقة في الفترة السابقة على استلامه (عليه السلام) للسلطة أو تعمد تضييعها، والشكوى من ذلك كثير لا مجال لاستيعابه، وفيما ذكرناه كفاية لتنبيه الباحث عن الحقيقة التي لابد من معرفتها والاهتمام بالوصول لها.

 


[1] نهج البلاغة ج: ٢ ص: ٤٣، ٤٤.

[2] نهج البلاغة ج: ٣ ص: ٣٠-٣٣. قال في لسان العرب: ((وفلان صنيعة فلان وصنيع فلان: إذا اصطنعه وأدبه وخرجه ورباه)).

[3] نهج البلاغة ج: ٢ ص: ٢٣٢.

[4] نهج البلاغة ج: ٤ ص: ٢٦.

[5] نهج البلاغة ج: ۲ ص: ۱۳۲، ۱۳۳.

[6] نهج البلاغة ج: 1 ص: ٣٠.

[7] نهج البلاغة ج: ۲ ص: ۲۷.

[8] شرح نهج البلاغة ج: ٩ ص: ٨٦.