مدى اندفاع العامة مع السلطة في تلك الفترة

ويمكن أن نعرف مدى اندفاع الناس مع أولياء الأمور في ذلك الوقت، وعدم اهتمامهم بمعرفة الحقيقة، والدفاع عنها، مما تقدم في قصة صبيغ بن عسل[1] من امتناع الناس عن مجالسته ومخالطته لمنع عمر عن ذلك، من دون أن يذكروا جرمه أو يقيّموه.

وما رواه جندب بن عبد الله الأزدي عند تعرضه للمشادة بين المقداد وعبد الرحمن بن عوف من أجل إقصاء أمير المؤمنين (عليه السلام) في تلك الشورى، وما تقدم من قول المقداد: ((أما والله لو أن لي على قريش أعواناً لقاتلتهم قتالي إياهم ببدر وأحد)) [2].

قال جندب: ((فاتبعته، وقلت له: يا عبد الله أنا من أعوانك. فقال: رحمك الله إن هذا الأمر لا يغني فيه الرجلان ولا الثلاثة)).

قال: فدخلت من فوري ذلك على علي (عليه السلام) فقلت: يا أبا الحسن، والله ما أصاب قومك بصرف هذا الأمر عنك. فقال: صبر جميل. والله المستعان. فقلت: والله إنك لصبور. قال: فإن لم أصبر فماذا أصنع؟... فقلت: تقوم في الناس فتدعوهم إلى نفسك، وتخبرهم أنك أولى بالنبي ﷺ ، وتسألهم النصر على هؤلاء المظاهرين عليك. فإن أجابك عشرة من مائة شددت بهم على الباقين. فإن دانوا لك فذاك، وإلا قاتلتهم، وكنت أولى بالعذر قتلت أو بقيت، وكنت أعلى عند الله حجة.

فقال: أترجو يا جندب أن يبايعني من كل عشرة واحد؟ قلت: أرجو ذلك. قال: لكني لا أرجو ذلك. لا والله، ولا من المائة واحد...)).

هذا في المدينة المنورة التي هي موطن المهاجرين والأنصار، والتي يعرف الكثير من أهلها أو جميعهم مقام أمير المؤمنين (صلوات الله عليه) وحقه، وما حصل من الظلم عليه خاصة، وعلى أهل البيت عموماً، نتيجة الانحراف.

أما في غيرها من أمصار المسلمين فمن الطبيعي أن يكون الحال أشدّ، والناس أبعد عن معرفة الحقيقة والاهتمام بأمرها.

قال جندب بعد أن ذكر حديث أمير المؤمنين (عليه السلام) السابق حول موقف الناس معه: ((فقلت: جعلت فداك يا ابن عم رسول الله، لقد صدعت قلبي بهذا القول. أفلا أرجع إلى المصر، فأوذن الناس بمقالتك، وأدعو الناس إليك؟ فقال: يا جندب ليس هذا زمان ذاك. قال: فانصرفت إلى العراق، فكنت أذكر فضل علي على الناس، فلا أعدم رجلاً يقول لي ما أكره. وأحسن ما أسمعه قول من يقول: دع عنك هذا، وخذ فيما ينفعك. فأقول: إن هذا مما ينفعني. فيقوم عني ويدعني))[3].

وعن أبي الطفيل، قال: ((خرجت أنا وعمرو بن صليع المحاربي حتى دخلنا على حذيفة... فقال: حدثنا يا حذيفة. فقال: عما أحدثكم؟ فقال: لو أني أحدثكم بكل ما أعلم قتلتموني، أو قال: لم تصدقوني. قالوا: وحق ذلك؟ قال: نعم. قالوا: فلا حاجة لنا في حق تحدثناه فنقتلك عليه. ولكن حدثنا بما ينفعنا ولا يضرك. فقال: أرأيتم لو حدثتكم أن أمكم تغزوكم إذاً صدقتموني؟ قالوا: وحق ذلك؟ !...))[4]. وقريب منه حديث خيثمة بن عبد الرحمن عن حذيفة[5].

وهي تدل على أن عامة المسلمين قد تمسكوا بثقافة خاصة لا يقبلون بغيرها. حتى إن حذيفة - مع ما له من مقام رفيع - لو حدثهم بخلافها لكذبوه بل قد يقتلونه.

 


[1] تقدم عند الكلام في تحجير السلطة على السنة النبوية وقسوتها في تنفيذ مشروعها.

[2] تقدم في أوائل الكلام في تأكيد السلطة على أهمية الطاعة ولزوم الجماعة.

[3] شرح نهج البلاغة ج: ٩ ص: ٥٨.

[4] المصنف لعبد الرزاق ج: ۱۱ ص: ٥٢-٥٣ باب القبائل.

[5] المستدرك على الصحيحين ج: ٤ ص: ٤٧١ كتاب الفتن والملاحم، وقال بعد إيراد الحديث: ((هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه)).