غفلة العامة عن ابتناء بيعة عثمان على الانحراف

وقد أذهلهم ذلك كله عن تمادي السلطة في الانحراف عن الخط السليم في الإسلام، نتيجة المخالفات الكثيرة، ومنها ما تمت على أساسه بيعة عثمان، وهو أخذ سيرة أبي بكر وعمر شرطاً في البيعة يضاف إلى موافقة كتاب الله عز وجل وسنة نبيه (صلى الله عليه وآله)، وجعلها في مرتبة واحدة. من أجل إقصاء أمير المؤمنين (عليه السلام)، الذي يعلم الخاصة الذين بيدهم الحلّ والعقد ومن سار في خطهم أنه كما قال له عمر: ((أما والله لئن وليتهم لتحملنهم على الحق الواضح والمحجة البيضاء)) [1]، وكما قال عنه لابن عباس: ((ولئن وليهم ليأخذنهم بمرّ الحق لا يجدون عنده رخصة...))[2].

وفي حديث عبد الرحمن بن عبد القاري في حوار بين عمر وبين رجل من الأنصار: ((ثم قال عمر للأنصاري: من ترى الناس يقولون يكون الخليفة بعدي؟ قال: فعدد رجالاً من المهاجرين، ولم يسم علياً. فقال عمر: فما لهم من أبي الحسن؟ فوالله إنه لأحراهم إن كان عليهم أن يقيمهم على طريقة من الحق))[3].

وفي حديث عمر بن ميمون الأودي قال: ((كنت عند عمر بن الخطاب حين ولى الستة الأمر. فلما جازوا أتبعهم بصره، ثم قال: لئن ولوها الأجيلح ليركبن بهم الطريق. يريد علياً))[4].

وفي حديث أبي مجلز في مثل ذلك: ((قال عمر: من تستخلفون بعدي؟... فقال رجل من القوم: نستخلف علياً. فقال: إنكم لعمري لا تستخلفونه. والذي نفسي بيده لو استخلفتموه لأقامكم على الحق وإن كرهتم...))[5].

كما يعلمون أنه (عليه السلام) لو ولي الخلافة لوسعه أن يظهر الحقيقة، ثم لم تخرج الخلافة عن أهل البيت (صلوات الله عليهم).

والأمر الحقيق بالانتباه أنه إذا كان مقام أمير المؤمنين (عليه السلام) مجهولاً عند عامة المسلمين - نتيجة ما سبق - فالمفترض أن لا يخفى عليهم مقام الكتاب المجيد والسنة الشريفة، وانحصار المرجعية في العلم والعمل بهما، لولا الذهول والاندفاع في تمجيد الحكام والتبعية لهم في الدين. الأمر الذي سبق الكلام فيه في المبحث الأول.

واكتفى أمير المؤمنين (صلوات الله عليه) بالامتناع عن قبول الشرط المذكور - وإن أدى ذلك إلى إقصائه عن الخلافة - التزاماً منه بمبادئه، وإقامة للحجة على عدم شرعية هذا الشرط.

ولم يكن في وسعه (عليه السلام) حينئذ أن يشنع على ذلك الشرط، ويحمل العامة على الإنكار والتغيير، لعدم وجود الأرضية الصالحة لذلك، بعدما سبق من اندفاع الناس مع أولياء الأمور. مع أنه ربما كان لا يرى الصلاح في أن يبدأ هو بشق كلمة المسلمين، وزرع بذور الخلاف بينهم. على ما أشرنا إليه آنفاً.

 


[1] شرح نهج البلاغة ج: ١ ص: ١٨٦، واللفظ له. ويوجد هذا المعنى بألفاظ مختلفة في شرح نهج البلاغة ج: ٦ ص: ٣٢٧، ج: ١٢ ص: ٢٥٩،٥٢ - ٢٦٠، والمستدرك على الصحيحين ج: ٣ ص: ٩٥ كتاب معرفة الصحابة: ومن مناقب أمير المؤمنين عمر بن الخطاب(رض)، والاستيعاب ج: ٣ ص: ۱۱۳۰ في ترجمة علي بن أبي طالب، والمصنف لعبد الرزاق ج: ٥ ص: ٤٤٦-٤٤٧ كتاب المغازي: بيعة أبي بكر (رض) في سقيفة بني ساعدة، والطبقات الكبرى ج: ٣ ص: ٣٤٢ في ترجمة عمر: ذكر استخلاف عمر(ره)، والأدب المفرد ص: ۱۲۸ البغي، وكنز العمال ج: ٥ ص: ٧٣٤: ١٤٢٥٤، ص: ٧٣٦ ح: ١٤٢٥٨، ص: ٧٣٦-٧٣٧ ح: ١٣٢٦٠، وغيرها من المصادر الكثيرة.

[2] تاريخ اليعقوبي ج: ٢ ص ١٥٩ أيام عمر بن الخطاب.

[3] المصنف لعبد الرزاق ج: ٥ ص: ٤٤٦ كتاب المغازي: بيعة أبي بكر (رض) في سقيفة بني ساعدة، واللفظ له. الأدب المفرد للبخاري ص: ۱۲۸ البغي كنز العمال ج: ٥ ص: ٧٣٦-٧٣٧ ح: ١٤٢٦٠، وغيرها من المصادر، وقريب منه في أنساب الأشراف ج: ٣ ص: ١٤-١٥ بيعة علي بن أبي طالب (عليه السلام).

[4] المصنف لعبد الرزاق ج: ٥ ص: ٤٤٦-٤٤٧ كتاب المغازي: بيعة أبي بكر (رض) في سقيفة بني ساعدة، واللفظ له. أنساب الأشراف ج: ٢ ص٣٥٣ وأما أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام). تاريخ دمشق ج: ٤٢ ص: 427 - 428 في ترجمة علي بن أبي طالب (رضي الله عنه). الكامل في التاريخ ج: ٣ ص: ٣٩٩ أحداث سنة أربعين من الهجرة: ذكر بعض سيرته (أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) ) شرح نهج البلاغة ج: ۱۲ ص: ۱۰۸. وغيرها من المصادر.

[5] کنز العمال ج: ٥ ص: 735 – 736 ح: ١٤٢٥٨.