ومن أجل إبقائهم على غفلتهم رأى أن اللازم الحجر على كبار الصحابة وذوي الشأن منهم، وحبسهم في المدينة المنورة، وجعلهم تحت سيطرته، بحيث لا يخرج منهم خارج عنها إلا تحت رقابة مشددة، من أجل الالتزام بتعاليمه والسير على خطه. ولا أقل من عدم الخروج عنه، وزرع بذور الخلاف والانشقاق.
لأن صحبتهم للنبي(صلى الله عليه وآله)، وقدمهم في الإسلام، واشتراكهم في حروبه الأولى، تجعل لهم حرمة في نفوس عامة المسلمين، قد يستثمرونها من أجل كشف الحقيقة، وإيضاح واقع الإسلام الحق، أو من أجل تثبيت مراكز قوة ونفوذ لهم في مقابل السلطة، لتحقيق أطماعهم الشخصية، أو نحو ذلك مما قد يؤدي إلى تعدد الاتجاهات داخل الكيان الإسلامي، وظهور الخلافات أو حصول الشقاق.
وهذا بخلاف حديثي الإسلام والمنافقين، فلم يقف منهم هذا الموقف، بل استعان بهم، على ما تقدم توضيحه عند التعرض للخطوات التي قامت بها السلطة من أجل تثبيت شرعيتها.
وقد تقدم منه أنه لما سئل عن توليته المؤلفة قلوبهم والطلقاء وأبناءهم، وترك أمير المؤمنين (عليه السلام) والعباس والزبير وطلحة، قال: ((أما علي فأنبه من ذلك. وأما هؤلاء النفر من قريش فإني أخاف أن ينتشروا في البلاد، فيكثروا فيها الفساد))[1].
و عن قيس بن حازم قال: ((جاء الزبير إلى عمر بن الخطاب يستأذنه في الغزو، فقال عمر: اجلس في بيتك، فقد غزوت مع رسول الله ﷺ. قال: فردد ذلك عليه، فقال له عمر في الثالثة أو التي تليها: اقعد في بيتك. فو الله إني لأجد بطرف المدينة منك ومن أصحابك أن تخرجوا فتفسدوا على أصحاب محمد ﷺ))[2].
وفي رواية أخرى: ((فانطلق الزبير وهو يتذمر، فقال عمر: من يعذرني من أصحاب محمد ﷺ. لولا أني أمسك بفم هذا الشغب لأهلك أمة محمد ﷺ))[3].
وفي رواية ابن عساكر: ((من يعذرني من أصحاب محمد ﷺ لولا أني أمسك بفمي هذا الشِعب لأهدموا أمة محمد ﷺ))[4].
قال اليعقوبي: ((واستأذن قوم من قريش عمر في الخروج للجهاد. فقال: قد تقدم لكم مع رسول الله. قال: إني أخذ بحلاقيم قريش على أفواه هذه الحرة، لا تخرجوا فتسللوا بالناس يميناً وشمالاً. قال عبد الرحمن بن عوف فقلت: نعم يا أمير المؤمنين. ولِمَ تَمنعنا من الجهاد؟ فقال: لأن أسكت عنك فلا أجيبك خير لك من أن أجيبك. ثم اندفع يحدث عن أبي بكر، حتى قال: كانت بيعة أبي بكر فلتة وقى الله شرها. فمن عاد لمثلها فاقتلوه)) [5].
وعن الشعبي أنه قال: ((لم يمت عمر (رض) حتى ملته قريش، وقد كان حصرهم بالمدينة فامتنع عليهم، وقال: إن أخوف ما أخاف على هذه الأمة انتشاركم في البلاد. فإن كان الرجل يستأذنه في الغزو - وهو ممن حبس في المدينة من المهاجرين ولم يكن فعل ذلك بغيرهم من أهل مكة - فيقول: قد كان لك في غزوك مع رسول الله ﷺ ما يبلغك. وخير لك من الغزو اليوم أن لا ترى الدنيا ولا تراك. فلما ولي عثمان خلى عنهم، فاضطربوا في البلاد، وانقطع إليهم الناس[6].
قال محمد بن طلحة فكان ذلك أول وهن دخل على الإسلام، وأول فتنة كانت في العامة، ليس إلا ذلك[7].
[1] شرح نهج البلاغة ج: ٩ ص ۲۹ – ۳۰.
[2] المستدرك على الصحيحين ج: ٣ ص: ۱۲۰ كتاب معرفة الصحابة ومن مناقب أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (رضي الله عنه) مما لم يخرجاه، واللفظ له. عون المعبود ج: ١١ ص: ٢٤٦-٢٤٧، کنز العمال ج: ١١ ص: ٢٦٧ ح: ٣١٤٧٦.
[3] تاريخ بغداد ج: ٧ ص: ٤٦٤ في ترجمة الحسن بن يزيد بن ماجة بن محمد القزويني.
[4] تاريخ دمشق ج: ۱۸ ص: ٤٠٣ في ترجمة الزبير بن العوام.
[5] تاريخ اليعقوبي ج: ٢ ص: 157 - 158 في أيام عمر بن الخطاب.
[6] تاريخ الطبري ج: ٣ ص: ٤٢٦ أحداث سنة خمس وثلاثين من الهجرة: ذكر بعض سير عثمان بن عفان(رض)، واللفظ له. الكامل في التاريخ ج: ٣ ص: ١٨٠ أحداث سنة خمس وثلاثين من الهجرة: ذكر بعض سيرة عثمان. تاریخ دمشق ج: ۳۹ ص: ۳۰۲ - ۳۰۳ في ترجمة عثمان بن عفان. كنز العمال ج: ١٤ ص: ٧٦ ح: ۳۷۹۷۸. شرح نهج البلاغة ج: ۱۱ ص: ۱۲-۱۳. وغيرها من المصادر.
[7] تاريخ الطبري ج: ٣ ص: ٤٢٦ أحداث سنة خمس وثلاثين من الهجرة: ذكر بعض سير عثمان بن عفان(رض)، واللفظ له. كنز العمال ج: ١٤ ص: ٧٦ ح: ۳۷۹۷۸ . تاریخ دمشق ج: ۳۹ ص: ٣٠٢ في ترجمة عثمان بن عفان، وغيرها من المصادر.