وقد عرف عن عبد الله بن عمر أنه لا يبايع إلا بعد اجتماع الناس على خليفة واحد، من دون نظر إلى كيفية حصول الاجتماع، وأنه هل حصل بطريق مشروع أو بطريق عدواني غير مشروع. وعنه أنه قال: ((لا أقاتل في الفتنة. وأصلي وراء من غلب))[1].
وقال ابن حجر: ((وكان رأي ابن عمر ترك القتال في الفتنة ولو ظهر أن إحدى الطائفتين محقة، والأخرى مبطلة))[2].
وقال زيد بن أسلم: ((كان في زمان الفتنة لا يأتي أمير إلا صلّى خلفه، وأدى إليه زكاة ماله))[3].
وروى عبد الرزاق عن عبد الله بن محرز قال: ((أخبرني ميمون بن مهران قال: دخلت على ابن عمر أنا وشيخ أكبر مني - قال: حسبت أنه قال: ابن المسيب - فسألته عن الصدقة أدفعها إلى الأمراء؟ فقال: نعم. قال: قلت: وإن اشتروا به الفهود والبيزان؟ قال: نعم. فقلت للشيخ حين خرجنا: تقول ما قال ابن عمر؟ قال: لا. فقلت أنا لميمون بن مهران: أتقول ما قال ابن عمر؟ قال: لا)) [4].
وروى نحو ذلك عنه غير واحد[5].
وقد سبق من ابن عمر أن طلب من الإمام الحسين (عليه السلام) وعبد الله بن الزبير أن يبايعا يزيد، ولا يفرقا جماعة المسلمين[6].
وهو بذلك يعطي الشرعية الخلافة من يغلب وإن كان ظالماً باغياً قد غلب على الإمارة بالقسر والإكراه والطرق الإجرامية المنحطة.
وقريب من ذلك موقف سعد بن أبي وقاص في القتال - كما هو المعلوم من سيرته - وفي الزكاة، فعن عائشة ابنته أنها قالت: ((أرسل سعد بزكاة عين ماله إلى مروان بن الحكم، وهي خمسة آلاف درهم))[7].
وقد بقيت هذه النظرة لسلطان الجور الذي يجتمع عليه المسلمون بالقهر والسيف إلى بعض التابعين فهذا وهب بن منبه المتوفى سنة مائة وعشرة أو بعدها له حديث طويل مع أبي شمر ذي خولان ينصحه فيه بأن لا يدفع زكاته للحرورية ويطيل في ذم الخوارج. فقال له ذو خولان: ((فما تأمرني؟ قال: انظر زكاتك فأدها إلى من ولّاه الله أمر هذه الأمة وجمعهم عليه، فإن الملك من الله وحده وبيده يؤتيه من يشاء. فإذا أديتها إلى ولي الأمر برئت منها...))[8].
وعن الأوزاعي أنه قال: ((كان القاسم بن مخيمرة يقدم علينا ههنا متطوعاً، فإذا أراد أن يرجع استأذن الوالي. فقيل له: أرأيت إن لم يأذن لك. قال: أقيم، ثم قرأ: (وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ) )). قال الذهبي: ((وروى أبو إسحاق الفزاري عن الأوزاعي نحو ذلك. وزاد فيها: ويقول: من عصى من بعثه لم تقبل له صلاة حتى يرجع))[9].
وما أكثر ما ورد في ذلك عن السلطة وأتباعها ومن سار في خطها، وعليه جرى عملهم وسيرتهم.
[1] الطبقات الكبرى ج: ٤ ص: ١٤٩ في ترجمة عبد الله بن عمر بن الخطاب، واللفظ له. إرواء الغليل ج: ٢ ص: ٣٠٤.
[2] فتح الباري ج: ۱۳ ص: ٤٠. ومثله في عمدة القاري ج: ٢٤ ص: ٢٠٠.
[3] الطبقات الكبرى ج: ٤ ص: ١٤٩ في ترجمة عبد الله بن عمر بن الخطاب، واللفظ له. البداية والنهاية ج: ٩ ص: 8 أحداث سنة أربع وسبعين من الهجرة: في ترجمة عبد الله بن عمر. إرواء الغليل ج: ٢ ص: ٣٠٣-٣٠٤.
[4] المصنف لعبد الرزاق ج: ٤ ص: ٤٧ كتاب الزكاة: باب موضع الصدقة ودفع الصدقة في مواضعها.
[5] راجع المصنف لعبد الرزاق ج: ٤ ص: ٤٦ كتاب الزكاة: باب موضع الصدقة ودفع الصدقة في مواضعها، ص: ٥٠ باب لا تحل الصدقة لآن محمد ﷺ ، والسنن الكبرى للبيهقي ج: ٤ ص: ١١٥ كتاب الزكاة: باب الاختيار في دفعها إلى الولي، والمصنف لابن أبي شيبة ج: ٣ ص: ٤٧ كتاب الزكاة: من قال تدفع الزكاة إلى السلطان، والمجموع للنووي ج: ٦ ص: ١٦٤، ونيل الأوطارج: ٤ ص: ۲۲۰، وكتاب المسند للشافعي ص: ٩٤، وغيرها من المصادر الكثيرة.
[6] تاريخ مدينة دمشق ج: ١٤ ص: ۲۰۸ في ترجمة الحسين بن علي بن أبي طالب. وتقدمت بقية مصادره في أواسط شواهد تأكيد السلطة على أهمية الطاعة ولزوم الجماعة.
[7] أنساب الأشراف ج: ۱۰ ص: ۲۳ في ترجمة سعد بن أبي وقاص. تاريخ الإسلام ج: ٤ ص: ٢٢٠ في ترجمة سعد بن أبي وقاص. الطبقات الكبرى ج: ٣ ص: ١٤٩ في ترجمة سعد بن أبي وقاص: ذكر الصلاة على سعد وكيف حملت جنازته. تاريخ مدينة دمشق ج: ۲۰ ص: ٣٦٣ في ترجمة سعد بن مالك أبي وقاص.
ومن الملفت للنظر أن هذا الموقف من سعد بن أبي وقاص وعبد الله بن عمر لا يتناسب مع موقفهما من بيعة أبي بكر فقد سارعا إليها قبل أن تجتمع عليها الأمة، وقبل أن يبايع أمير المؤمنين (صلوات الله عليه) وسائر بني هاشم ومن تبعهم وسعد بن عبادة ومن تبعه. كما أن عبد الله بن عمر بايع يزيد بن معاوية، والإمام الحسين (عليه السلام) قد أعلن الامتناع من بيعته، وتبعه جماعة لا يستهان بهم، ولم يتضح موقف عامة أهل الكوفة بعد، وقبل أن يبايع عبد الله بن الزبير ومن تبعه.
[8] سير أعلام النبلاء ج: ٤ ص: ٥٥٥ في ترجمة وهب بن منبه، واللفظ له. تاريخ مدينة دمشق ج: ٦٣ ص: ٣٨٤ في ترجمة وهب بن منبه. تهذيب الكمال ج: ٣١ ص: ١٥٦ في ترجمة وهب بن منبه.
[9] سير أعلام النبلاء ج: ٥ ص: ٢٠٢ في ترجمة القاسم بن مخيمرة، واللفظ له. تاريخ مدينة دمشق ج: ٤٩ ص: ٢٠٤ في ترجمة القاسم بن مخيمرة. تهذيب الكمال ج: ٢٣ ص: ٤٤٥ في ترجمة القاسم بن مخيمرة.