ومن الطريف ما رواه الطبري بسنده عن أبي حارثة وأبي عثمان في حديثها عن فتح إفريقية في عهد عثمان، ثم عن أهل إفريقية بعد الفتح. قالا: ((فمازالوا من أسمع أهل البلدان وأطوعهم إلى زمان هشام بن عبد الملك، أحسن أمة إسلاماً وطاعة، حتى دبّ إليهم أهل العراق. فلما دبّ إليهم دعاة أهل العراق واستثاروهم، شقوا عصاهم، وفرقوا بينهم إلى اليوم.
وكان سبب تفريقهم أنهم ردوا على أهل الأهواء، فقالوا: إنا لا نخالف الأئمة بما تجني العمال، ولا نحمل ذلك عليهم. فقالوا لهم: إنما يعمل هؤلاء بأمر أولئك. فقالوا لهم: لا نقبل ذلك حتى نبورهم [1]. فخرج ميسرة في بضعة عشر إنساناً حتى يقدم على هشام، فطلبوا الإذن، فصعب عليهم.
فأتوا الأبرش فقالوا: أبلغ أمير المؤمنين أن أميرنا يغزو بنا وبجنده، فإذا أصاب نَفَلَهم دوننا، وقال: هم أحق به. فقلنا: هو أخلص لجهادنا، لأنا لا نأخذ منه شيئاً. إن كان لنا فهم منه في حلّ، وإن لم يكن لنا لم نُرِده.
وقالوا: إذا حاصرنا مدينة قال: تقدموا. وأخّر جنده. فقلنا: تقدموا، فإنه ازدياد في الجهاد، ومثلكم كفى إخوانه. فوقيناهم بأنفسنا وكفيناهم.
ثم إنهم عمدوا إلى ماشيتنا، فجعلوا يبقرونها عن السخال يطلبون الفراء البيض لأمير المؤمنين، فيقتلون ألف شاة في جلد. فقلنا: ما أيسر هذا لأمير المؤمنين، فاحتملنا ذلك وخليناهم وذلك.
ثم إنهم سامونا أن يأخذوا كل جميلة من بناتنا. فقلنا: لم نجد هذا في كتاب ولا سنة، ونحن مسلمون.
فأحببنا أن نعلم أعن رأي أمير المؤمنين ذلك أم لا؟ قال: نفعل.
فلما طال عليهم، ونفدت نفقاتهم، كتبوا أسماءهم في رقاع، ورفعوها إلى الوزراء، وقالوا: هذه أسماؤنا وأنسابنا، فإن سألكم أمير المؤمنين عنا فأخبروه.
ثم كان وجههم إلى إفريقية، فخرجوا على عامل هشام، فقتلوه، واستولوا على إفريقية. وبلغ هشاماً الخبر، فإذا هم النفر الذين جاء الخبر أنهم صنعوا ما صنعوا))[2].
وهو يكشف بوضوح عن تأثير هذه الثقافة في تشويه مفهوم وجوب الطاعة حتى يُتحمّل من أجلها مثل هذا الظلم. كما يكشف عن استغفال الناس - نتيجة العوامل السابقة - حتى صاروا يحترمون هؤلاء الخلفاء الجبارين، ويعظمونهم هذا التعظيم، مع شدة تعلقهم بالدنيا، وانغماسهم في الملذات بإسراف وإفساد، بحيث يبلغ بهم الأمر أن يطلبوا جلد السخال البيض ولو توقف تحصيل الواحد منه على أن يبقروا بطن ألف شاة لعامة الرعية من المسلمين.
وبدلاً من أن يأنف هؤلاء المستغفلون أن يكون هؤلاء ولاة عليهم وأمراء للمؤمنين، يحتملون ذلك، ويخلون أمراءهم يفعلونه، ويقولون: ((ما أيسر هذا لأمير المؤمنين)).
ومن الملفت للنظر أن الراوي لا ينعى على الخلفاء ظلمهم وظلم عمالهم لهؤلاء، واحتجابهم عنهم بحيث لا يتسير لهم إبلاغ ظلامتهم، حتى يضطرهم ذلك لشق العصا والخروج عن طاعتهم، بعد أن كانوا - كما يقول - أحسن أمة إسلاماً وطاعة، بل يظهر عليه الأسف لإفساد أهل العراق ودعاتهم لهؤلاء المساكين، وحملهم على شق العصا والخروج عن الطاعة، مما أدى إلى خروجهم وخلافهم بعد ما غضوا النظر عن الظلامات الكثيرة، حتى بلغ الظلم إلى أعراضهم وغصب نسائهم، وبعد أن طال احتجاب الخليفة عنهم حتى نفدت نفقاتهم، وكانوا قد قصدوه من تلك المسافات البعيدة ليرفعوا له ظلامتهم.
هذه هي مفاهيم الخلافة والطاعة والجماعة والفتنة وشقّ العصا، التي حاولت السلطات المنحرفة نشرها بين المسلمين وتثقيفهم بها.
[1] بارَ الرجلَ: جربه واختبره.
[2] تاريخ الطبري ج: ٣ ص: ٣١٣ أحداث سنة سبع وعشرين من الهجرة: ذكر الخبر عن فتح أفريقية وعن سبب ولاية عبد الله بن سعد بن أبي سرح مصر وعزل عثمان عمرو بن العاص عنها، واللفظ له. الكامل في التاريخ ج: ۳ ص: ۹۲ -۹۳ أحداث سنة سبع وعشرين من الهجرة: ذكر انتقاض افريقية وفتحها ثانية.