وذلك يناسب ما هو المعلوم من شدة عمر وغلظته. كما أجاب بذلك عبد الرحمن بن عوف أبا بكر لما سأله عنه، حيث قال له: ((إنه أفضل من رأيك، إلا أن فيه غلظة))[1]. بل أنكر بعض المهاجرين على أبي بكر استخلافه لعمر، حيث قال له: ((استخلفت علينا عمر وقد عَتا علينا ولا سلطان له، فلو قد ملكنا كان أعتى وأعتى. فكيف تقول الله إذا لقيته؟!))[2].
وتقول أسماء بنت عميس: ((دخل طلحة بن عبيد الله على أبي بكر، فقال: استخلفت على الناس عمر، وقد رأيت ما يلقى الناس منه وأنت معه، فكيف به إذا خلا بهم؟! وأنت لاقٍ ربك فسائلك عن رعيتك. فقال أبو بكر وكان مضطجعاً: أجلسوني فأجلسوه، فقال لطلحة: أبا لله تفرقني؟! أو أبالله تخوفني؟! إذا لقيت الله ربي فساءلني قلت: استخلفت على أهلك خير أهلك))[3].
وزاد ابن أبي الحديد: ((فقال طلحة: أعمر خير الناس يا خليفة رسول الله؟! فاشتد غضبه. فقال: إي والله هو خيرهم، وأنت شرهم. أما والله لو وليتك لجعلت أنفك في قفاك، ولرفعت نفسك فوق قدرها حتى يكون الله هو الذي يضعها. أتيتني وقد دلكت عينك تريد أن تفتنني عن ديني وتزيلني عن رأيي! قم لا أقام الله رجليك... فقام طلحة فخرج))[4].
وفي رواية أخرى أن طلحة قال له: ((ما أنت قائل لربك غداً وقد وليت علينا فظاً غليظاً تفرق منه النفوس، وتنفضّ عنه القلوب))[5].
بل قال ابن قتيبة: ((فدخل عليه المهاجرون والأنصار حين بلغهم أنه استخلف عمر، فقالوا: نراك استخلفت علينا عمر وقد عرفته وعلمت بوائقه[6] فينا وأنت بين أظهرنا، فكيف إذا وليت عنا؟ وأنت لاقٍ الله عز وجل فسائلك، فما أنت قائل؟ فقال أبو بكر: لئن سألني الله لأقولن: استخلفت عليهم خيرهم في نفسي... وكان أهل الشام قد بلغهم مرض أبي بكر استبطؤوا الخبر، فقالوا: إنا لنخاف أن يكون خليفة رسول الله قد مات وولي بعده عمر. فإن كان عمر هو الوالي فليس لنا بصاحب، وإنا لنرى خلعه))[7].
وعن زيد بن الحارث أن أبا بكر حين حضره الموت أرسل إلى عمر يستخلفه فقال الناس: ((تستخلف علينا فظاً غليظاً، ولو قد ولينا كان أفظ وأغلظ، فما تقول لربك إذا لقيته وقد استخلفت عمر ؟![8].
ويظهر من ذلك أن المنكرين لولاية عمر في أنفسهم وعلى أبي بكر جماعة كثيرون. ويناسبه قول أبي بكر لعبد الرحمن بن عوف: ((إني وليت أمركم خيركم في نفسي، فكلكم ورم أنفه من ذلك يريد أن يكون الأمر له دونه...))[9].
وعن سيرة عمر في ولايته وسلطانه يقول أمير المؤمنين (صلوات الله عليه) في خطبته الشقشقية: ((فصيرها في حوزة خشناء يغلظ كلامها، ويخشن مسها، ويكثر العثار فيها، والاعتذار منها. فصاحبها كراكب الصعبة، إن أشنق لها خرم، وإن أسلس لها تقحم. فمُنِيَ الناس - لعمر والله - بخبط وشماس وتلون واعتراض. فصبرت على طول المدة وشدة المحنة))[10].
ويقول عثمان: ((أما والله يا معشر المهاجرين والأنصار لقد عبتم عليّ أشياء ونقمتم أموراً قد أقررتم لابن الخطاب مثلها. ولكنه وَقَمَكم[11] وقمعكم، ولم يجترئ أحد يملأ بصره منه، ولا يشير بطرفه إليه...))[12].
وعن المغيرة أنه قال: ((كان مما تميز به عمر(رض) الرعب، إن الناس كانوا يفرقونه))[13].
وقال الأصمعي: ((كلم الناس عبد الرحمن بن عوف أن يكلم عمر بن الخطاب أن يلين لهم، فإنه قد أخافهم، حتى إنه قد أخاف الأبكار في خدورهن. فقال عمر: إني لا أجد لهم إلا ذلك. وإنهم لو يعلمون ما لهم عندي لأخذوا ثوبي عن عاتقي))[14].
وفي حديث محمد بن زيد أن جماعة من المهاجرين قالوا لعبد الرحمن: ((لو أنك كلمت أمير المؤمنين، فإنه يقدم الرجل، فيطلب الحاجة، فتمنعه مهابته أن يكلمه حتى يرجع. فليلن للناس))[15].
ويبدو الإغراق في الشدة والإرعاب مما عن القاسم بن محمد قال: ((بينما عمر (رض) يمشي وخلفه عدة من أصحاب رسول الله ﷺ وغيرهم بدا له فالتفت فما بقي منهم أحد إلا سقط إلى الأرض على ركبتيه. فلما رأى ذلك بكي، ثم رفع يديه فقال: اللهم إنك تعلم أني منك منهم أشد فرقاً منهم مني)) [16]... إلى غير ذلك مما يجده الناظر في سيرته. ويأتي بعض ما يتعلق بذلك في المقام الأول من المبحث الثاني إن شاء الله تعالى.
هذا والحديث في التحجير على السنة النبوية طويل تعرضنا لطرف منه في جواب السؤال السابع من الجزء الأول من كتابنا (في رحاب العقيدة)، وعند التعرض لمحن الحديث النبوي الشريف في أواخر جواب السؤال الثامن من الجزء الثالث من الكتاب المذكور.
[1] شرح نهج البلاغة ج: ١ ص: ١٦٤.
[2] تاریخ دمشق ج: ٤٤ ص: ٢٤٩، ٢٥٠ في ترجمة عمر بن الخطاب، واللفظ له. الفائق في غريب الحديث ج: ۱ ص: ۸۹.
[3] تاريخ الطبري ج: ٢ ص: ٦٢١ أحداث سنة ثلاث عشرة من الهجرة: ذكر أسماء قضاته وكتابه وعماله على الصدقات، واللفظ له. الكامل في التاريخ ج: ٢ ص: ٤٢٥ أحداث سنة ثلاث عشرة من الهجرة: ذكر استخلافه عمر بن الخطاب. شرح نهج البلاغة ج: ١ ص: ١٦٤ - ١٦٥. وقريب منه في الفتوح لابن أعثم ج: ۱ ص: ۱۲۱ ذكر وفاة أبي بكر الصديق (رض) قبل فتح دمشق.
[4] شرح نهج البلاغة ج: ١ ص: ١٦٥.
[5] شرح نهج البلاغة ج: ١ ص: ١٦٤.
[6] هكذا وردت في طبعة مؤسسة الحلبي وشركائه بتحقيق الدكتور طه محمد الزيني، وكذا طبعة أمير - قم سنة: ١٤١٣هـ بتحقيق علي شيري. وأما ما في طبعة دار الكتب العلمية في بيروت سنة: ١٤١٨هـ / ۱۹۹٧م بتعليق خليل المنصور فالوارد هكذا: (بوافقه).
[7] الإمامة والسياسة ج: ١ ص: ۲۳ ولاية عمر بن الخطاب (رض).
[8] المصنف لابن أبي شيبة ج: ٨ ص: ٥٧٤ كتاب المغازي: ما جاء في خلافة عمر بن الخطاب، واللفظ له. تاريخ المدينة ج: ٢ ص: ٦٧١، كنز العمال ج: ٥ ص: ٦٧٨ ح: ١٤١٧٨.
[9] تاريخ الطبري ج: ٢ ص: ٦١٩ أحداث سنة ثلاث عشرة من الهجرة: ذكر أسماء قضاته وكتابه وعماله على الصدقات، واللفظ له. مجمع الزوائد ج: ٥ ص: ۲۰۲ كتاب الخلافة: باب كراهة الولاية ولمن تستحب. المعجم الكبير ج: ١ ص: ٦٢ ومما أسند أبو بكر الصديق (رض) عن رسول الله ﷺ. الإمامة والسياسة ج: 1 ص: ۲۰ مرض أبي بكر واستخلافه عمر (رض). تاریخ دمشق ج: ٣٠ ص: ٤٢٠ في ترجمة أبي بكر الصديق. ميزان الاعتدال ج: ۳ ص: ١٠٩ في ترجمة علوان بن داود البجلي. لسان الميزان ج: ٤ ص: ١٨٨ في ترجمة علوان بن داود البجلي. وقد ذكر بعضه في النهاية في غريب الحديث ج: ٥ ص: ۱۷۷، ولسان العرب ج: ٩ ص: ١٥، وتاج العروس ج: ۱۷ ص: ۷۲۳. وغيرها من المصادر.
[10] نهج البلاغة ج: ۱ ص: ۳۳، واللفظ له. علل الشرائع ج: ١ ص: ١٥١. معاني الأخبار ص: ٣٦١. مناقب آل أبي طالب لابن شهر آشوب ج: ۲ ص: ٤٩. وغيرها من المصادر.
[11] وقم الدابة: جذب عنائها لتقف. ووقم الرجلَ: قهره ورده عن حاجته أقبح الرد.
[12] الإمامة والسياسة ج: ۱ ص: ۲۸ ذكر الإنكار على عثمان، واللفظ له. أنساب الأشراف ج:٦ ص: ١٧٥-١٧٦ مسير أهل الأمصار إلى عثمان واجتماعهم إليه مع من اجتمع من أهل المدينة. تاريخ الطبري ج: ٣ ص: ٣٧٧ أحداث سنة أربع وثلاثين من الهجرة: تكاتب المنحرفين عن عثمان للاجتماع ... الكامل في التاريخ ج: ٣ ص: ١٥٢ أحداث سنة أربع وثلاثين من الهجرة: ذكر ابتداء قتل عثمان. البداية والنهاية ج: ۷ ص: ۱۸۹ أحداث سنة أربع وثلاثين من الهجرة. إعجاز القرآن للباقلاني ص: ١٤٢. شرح نهج البلاغة ج: ٩ ص: ۲۳، وغيرها من المصادر.
[13] تاريخ المدينة ج: ٢ ص: ٦٨ هيبة عمر.
[14] عيون الأخبار ج: ۱ ص: ۱۲ كتاب السلطان، واللفظ له. تاريخ دمشق ج: ٤٤ ص: ٢٦٩ - ٢٧٠ في ترجمة عمر بن الخطاب. كنز العمال ج: ۱۲ ص: ٦٥٠-٦٥١ ج: ٣٥٩٧٩. التذكرة الحمدونية ج: ١ ص: ۱۰۹ الفصل الخامس أخبار في السياسة والآداب.
[15] تاريخ المدينة ج: ٢ ص: ٦٨١ هيبة عمر، واللفظ له، أنساب الأشراف ج: ١٠ ص: ٣٤٠ أخبار عمر بن الخطاب. الطبقات الكبرى ج: ٣ ص: ۲۸۷ ذکر استخلاف عمر (رض). تاریخ دمشق ج: ٤٤ ص: ٢٦٩ في ترجمة عمر بن الخطاب. كنز العمال ج: ١٢ ص: ٥٦٤ ح: ٣٥٧٧٠.
[16] تاريخ المدينة ج: ٢ ص: ٦٨١ هيبة عمر.