غلبة الباطل لا توجب ضياع الدين الحق وخفاء حجته

لكن الله عز وجل قد أخذ على نفسه أن يتم الحجة على الحق، كما سبق. بل هو اللازم عليه بمقتضى عدله وحكمته.. أولاً: لقبح العقاب بلا بيان. وثانياً: لعدم تحقق حكمة جعل الدين وإلزام الناس به إلا بوصوله وقيام الحجة عليه.

وحينئذ لابد من كون غلبة الباطل وتسلطه بنحو لا يمنع من قيام الحجة على بطلان دعوته، وصحة دعوة الحق، بحيث تنبه الغافل لذلك، وتقطع عذر الجاهل.

كما لابد أن تبقى الدعوة المحقة التي يرعاها المرجع المعصوم شاخصة ناطقة، بحيث لو طلبها من شاء من أهل ذلك الدين وغيرهم، ونظر في حجتها بموضوعية تامة، بعيداً عن التعصب والعناد، لوصل إليها.

ونتيجة لذلك لابد من كون الخلاف للحق، والخروج عنه ليس لقصور في بيانه وخفاء فيه، بل عن تقصير من الخارج بعد البينة، وقيام الحجة الكافية على الحق.

كما قال الله تعالى: (كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ)[1].

وقال سبحانه: (إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللهِ الإِسْلَامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ)[2].

وقال عز وجل: (وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأَوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ) [3].

وقال تعالى: (وَلَوْ أَنَا أَهْلَكْنَاهُم بِعَذَابٍ مِّن قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِن قَبْلِ أَن نَّذِلَّ وَنَخْزَى)[4].

وفي حديث العرباض بن سارية عن النبي (صلى الله عليه وآله) أنه قال: ((قد تركتكم على البيضاء، ليلها كنهارها لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك))[5] ... إلى غير ذلك.

 


[1] سورة البقرة الآية: ۲۱۳ .

[2] سورة آل عمران الآية : ۱۹.

[3] سورة آل عمران الآية: ١٠٥.

[4] سورة طه الآية: ١٣٤ .

[5] مسند أحمد ج: ٤ ص: ١٢٦ حديث العرباض بن سارية عن النبي (صلى الله عليه وسلم)، واللفظ له. تفسير القرطبي ج: ۷ ص: ۱۳۸ - ۱۳۹. سنن ابن ماجة ج: ١ ص: ١٦ باب اتباع الخلفاء الراشدين المهديين. المستدرك على الصحيحين ج: ١ ص: ٩٦ كتاب العلم. السنة لابن أبي عاصم ج: ١ ص: ١٩، ٢٦ ، ٢٧. المعجم الكبير ج: ١٨ ص: ٢٤٧ في ما رواه عبد الرحمن بن عمرو السلمي عن العرباض بن سارية، ص: ٢٥٧ في ما رواه حبير بن نفير عن العرباض. مسند الشامبين ج ۳ ص: ۱۷۳ ، الترغيب والترهيب للمنذري ج: ١ ص: ٤٧. مصباح الزجاجة ج: ١ ص: ٥ كتاب اتباع السنة، وغيرها من المصادر الكثيرة.

روى الشيخ الجليل الحسن بن أبي الحسن الديلمي هذا الحديث كما يلي: ((قال العرباض بن سارية وعظنا رسول الله (صلى الله عليه وآله) موعظة ذرفت منها العيون، ووجلت منها القلوب، فقلنا: يا رسول الله إن هذه لموعظة مودع، فما تعهد إلينا؟ قال : لقد تركتكم على الحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ بعدها إلا هالك. ومن يعش منكم يرى اختلافاً كثيراً، فعليكم بما عرفتم من سنتي بعدي، وسنة الخلفاء الراشدين من أهل بيتي، فعضوا عليهم بالنواجذ، وأطيعوا الحق ولو كان صاحبه عبداً حبشياً، فإن المؤمن كالجمل الألوف حيثما قيد استقاد)). إرشاد القلوب ج: ۱ ص: ۳۷ الباب الخامس: في التخويف والترهيب.

أما مصادر الجمهور فقد تضمنت الحديث المذكور بتمامه بألفاظ متقاربة. وفيه: ((فعليكم بما عرفتم من سنتي بعدي وسنة الخلفاء الراشدين فعضوا عليها بالنواجذ...)) وقد حذف منه: ((من أهل بيتي)).

ولا ينبغي الإشكال في حذف ذلك تحريفاً للحديث الشريف. أو أنه كان مستغنىً عنه، لكون اختصاص الخلفاء الراشدين بأهل البيت (صلوات الله عليهم) كان معلوماً واضحاً في عهده (صلى الله عليه وآله) لآية التطهير وحديث الثقلين والغدير وغيرها من الآيات والنصوص الكثيرة الدالة على مرجعيتهم (عليهم السلام) للأمة في دينها.

فإن حديث العرباض هذا قد تضمن التنبيه لحدوث الاختلاف بعده (صلى الله عليه وآله)، وأن سنة الخلفاء الراشدين هي أحد المرجعين عند الاختلاف . فلابد من وضوح المرجعين معاً عند حصول الاختلاف، ليتضح الحق بسببهما، ويكونا أماناً من الضلال، وسبباً في هلاك الزائغ عن الحجة الواضحة.

ومن الظاهر أن الخلاف بدأ بعد وفاة النبي (صلى الله عليه وآله) مباشرة، وأول شيء وقع الخلاف فيه هو أمر الخلافة وتعيين الخليفة بعده(صلى الله عليه وآله). فلو لم يكن الخلفاء الراشدون حينئذٍ معلومين لم يكن لهم أثر في وضوح الحق عند الاختلاف.

ولا مجال - بلحاظ ما ذكرنا - لحملهم على الخلفاء الراشدين بالاصطلاح الذي استقر عليه أخيراً عامة الجمهور، لعدم وجودهم حين الاختلاف، بل وقع الخلاف بين المسلمين في معيار الخلافة الراشدة، كما بقي الخلاف بين الأمة في ذلك، ولم يكمل عددهم إلا بعد أن استحكم الخلاف وافترقت الأمة وأريقت الدماء بحد قد يبلغ التكفير، فلا يصلحون لأن يكونوا معياراً لإيضاح الحق عند حصول الاختلاف.

ويؤيد ما ذكرنا أمور:

الأول: ما في رواية للطبراني بسنده عن العرباض بن سارية نفسه قال: خرج علينا رسول الله ﷺ فوعظ الناس ورغبهم وحذرهم وقال ما شاء الله أن يكون وقال: ((اعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً، وأطيعوا من ولّاه أمركم ولا تنازعوا الأمر أهله وإن كان عبداً أسود وعليكم بما تعرفون من سنة نبيكم والخلفاء الراشدين، وعضوا عليها بالنواجذ ...)). المعجم الكبير للطبراني ج: ١٨ ص: ٢٤٨.

فإنه صريح في أن للأمر أهلاً ولاهم الله عز وجل إياه، وأنه ليس لهم أن ينازعوهم ذلك الأمر، بل عليهم أن ينقادوا لهم، وأنهم الخلفاء الراشدون الذين يجب الاستنان بسنتهم، وأن يعضوا بالنواجذ كسنة النبي(صلى الله عليه وآله). مع إجماع الجمهور على أن الخلفاء الراشدين باصطلاحهم لم يعينهم الله تعالى، وإنما صاروا خلفاء ببيعة الناس لهم.

الثاني: ما رواه شيعة أهل البيت عن النبي(صلى الله عليه وآله) من إطلاق الأئمة الراشدين على أئمة أهل البيت (صلوات الله عليهم)، كما رواه الخزاز القمي وابن عياش الجوهري عن أبي سعيد الخدري، قال: ((صلى بنا رسول الله (صلى الله عليه وآله) الصلاة الأولى، ثم أقبل بوجهه الكريم علينا، فقال: یا معاشر أصحابي إن مثل أهل بيتي فيكم مثل سفينة نوح وباب حطة في بني إسرائيل، فتمسكوا بأهل بيتي بعدي الأئمة الراشدين من ذريتي، فإنكم لن تضلوا أبداً. فقيل يا رسول الله كم الأئمة بعدك؟ قال : اثنا عشر من أهل بيتي، أو قال: من عترتي)) كفاية الأثر ص: ٤٧٥، مقتضب الأثرص : ٩ من المقدمة، ونحوه في ذلك ما روي عن واثلة بن الأسفع وعمار. كفاية الأثر ص: ۱۱۰، ۱۲۰ .

الثالث: أن وصف الأئمة بالراشدين قد شاع في تراث أئمة أهل البيت (صلوات الله عليهم) في الأدعية والزيارات وغيرها مما ورد عنهم. لاحظ الكافي ج: ٣ ص: ٤٧٧، ومن لا يحضره الفقيه ج: ۱ ص: ۳۱۹ ، وكامل الزيارات ص: ٣٢٦، ٣٢٨، ٤٧٥، وكفاية الأثر ص: 33-34، ۱۱۰-۱۱۱ ، ۱۲۰-۱۲۱ ، وغيرها من المصادر الكثيرة.

ولم يظهر في تراث الجمهور في العهود الأولى حتى ما ورد منه في مقام احترام الخلفاء الأولين والحث على الأخذ بسيرتهم، والاستنان بسنتهم. ففي الشورى اشترط في البيعة الأخذ بسيرة أبي بكر وعمر، من دون أن يشار لكونها خليفتين راشدين.

وحاول معاوية التشنيع على أمير المؤمنين (صلوات الله عليه) بموقفه السلبي من الخلفاء الثلاثة الأولين من دون أن يشير لذلك. شرح نهج البلاغة ج: ٢ ص: ٤٧ ، وقعة صفين ص: ۸۷، مع أنه أدعى في التشنيع عليه(عليه السلام).

وكذلك عمرو بن العاص . شرح نهج البلاغة ج: ٦ ص: ٢٨٧ .

وبويع عبد الله بن الزبير على كتاب الله وسنة نبيه (صلى الله عليه وآله) وسيرة الخلفاء الصالحين. أنساب الأشراف ج: ٥ ص: ۳۷۳. من دون إشارة لأنهم الراشدون.

وكذا لما قدم عبد الله بن مطيع الكوفة والياً من قبله خطب الناس، وقال في جملة ما قال: ((وأمرني بجباية فيتكم، وأن لا أحمل فضل فينكم عنكم إلا برضا منكم، ووصية عمر بن الخطاب التي أوصى بها عند وفاته، وبسيرة عثمان بن عفان التي سار بها في المسلمين)). تاريخ الطبري ج: ٤ ص: ٤٩٠ أحداث سنة ست وستين من الهجرة. وغيرها من المصادر الكثيرة التي يأتي تفصيلها في المقام الثاني عند الكلام فيما كسبه التشيع من فاجعة الطف في الجانب العاطفي.

وقد أنكر غير واحد على عبد الله بن عباس وعبد الله بن عمر والإمام أبي جعفر محمد بن علي الباقر(عليه السلام) في تحليل المتعة ومخالفة عمر، ولم يشيروا لكونه خليفة راشداً، مع أنه أدعى  للإنكار المذكور وصالح للاحتجاج له. تأتي مصادر ذلك في ص: ٤٢٨ ، ٤٢٩.

وكذا لما كتب عمر بن عبد العزيز لعدي بن أرطاة ليسأل الحسن البصري عن الوجه في عدم أخذ الجزية من نصارى العرب، فسأله فقال له: ((اكتب إليه: إنك متبع ولست بمبتدع. إن عمر رأى في ذلك صلاحاً)). أنساب الأشراف ج: ٨ ص: ١٥٩ في ذكر عمر بن عبد العزيز.

وقال عمر بن عبد العزيز في خطبة له في خلافته: ((ألا إن ما سنّ رسول الله ﷺ وصاحباه فهو دين نأخذ به وننتهي إليه ...)). تأتي مصادره عند الكلام في موقف عمر بن عبد العزيز من سنة الشيخين.

وقال في كلام له آخر: ((سنّ رسول الله ﷺ وولاة الأمر من بعده سنناً الأخذ بها تصديق بكتاب الله واستكمال لطاعة الله وقوة على دين الله، ليس لأحد تغييرها وتبديلها ولا النظر فيما خالفها. من اقتدى بها مهتد، ومن استنصر بها منصور، ومن خالفها اتبع غير سبيل المؤمنين وولاه الله ما تولى وصلاه جهنم وساءت مصيراً)). تفسير ابن أبي حاتم ج: ٤ ص: ١٠٦٧ واللفظ له. الدر المنثور ج: ٢ ص: ۲۲۲. البداية والنهاية ج: ٩ ص: ٢٤٢ فصل بلا عنوان بعد ذكر سبب وفاة عمر بن عبد العزيز. وروي نحوه عن مالك بن أنس أحد أئمة المذاهب الأربعة. سير أعلام النبلاء ج: 8 ص: ۹۸ في ترجمة مالك.

وفي كتاب لعمر بن عبد العزيز إلى عدي بن أرطاة: ((أما بعد فقد أتاني كتابك تسأل عن القضاء بين الناس. والقضاء بين الناس باتباع ما في كتاب الله، ثم ما جاء عن رسول الله ﷺ، ثم ما حكم به أئمة الهدى، ثم استشارة ذوي الرأي والعلم. فما أتاك من الحكم فلم تجده في الكتاب نصاً، ولا في السنة رواية، ولا أخبرك به مخبر عن الأئمة الأبرار، فسل عنه أهل العفة والمعرفة ...)). أنساب الأشراف ج: ٦ ص: ١٥٥ في ذكر عمر بن عبد العزيز.

وحينما تحرك أبو مسلم الخراساني داعية بني العباس، وطلب البيعة على كتاب الله وسنة نبيه وإلى الرضا من آل رسول الله(صلى الله عليه وآله)، وتحرش بنصر بن سيار عامل مروان آخر حكام بني أمية على خراسان، جمع نصر بن سيار القرّاء، وقال في حديث له محرضاً على أبي مسلم وأهل دعوته: ((فهلموا فلنتعاون على إطفاء نائرتهم وقمع ضلالتهم، ولكم أن نعمل بما في كتاب الله وسنة نبيه وسنة العمرين بعده)). أخبار الدولة العباسية ص: ۲۹۰. ولم يشر إلى أنهما خليفتان راشدان... إلى غير ذلك مما ورد في العهد الأموي وأغفل فيه التنبيه لأن خلافتهم راشدة مع شدة الحاجة لذلك لو كان حديث العرباض هذا وارداً فيهم.

وآخر ذلك. حينما تحرك أبو مسلم الخراساني داعية بني العباس، وطلب البيعة على كتاب الله وسنة نبيه، وإلى الرضا من آل رسول الله (صلى الله عليه وآله)، واحتك بنصر بن سيار عامل مروان آخر خلفاء بني أمية على خراسان، فقد جمع نصر بن سيار القرّاء، وقال في حديث له محرضاً على أبي مسلم وأهل دعوته: ((فهلموا فلنتعاون على إطفاء نائرتهم، وقمع ضلالتهم. ولكم أن نعمل بما في كتاب الله وسنة نبيه وسنة العمرين بعده)). أخبار الدولة العباسية ص: ٢٩٠. ولم يشر إلى أنهما خليفتان راشدان.

بل لا يبعد أن يكون إغفال ذلك في هذه المدة الطويلة - واللجوء لافتعال عناوين أخرى في الثناء عليهم - في عصر الصحابة وما قاربه لمعلومية اختصاص العنوان المذكور بأئمة أهل البيت (صلوات الله عليهم)، في محاولة لتجاهلهم وعدم تنبيه جمهور المسلمين المقامهم الرفيع.

حتى إذا تعاقبت الأجيال، واستحكم الجهل بمقامهم (عليهم السلام)، وقوي الجمهور المؤمن بمقام الخلفاء الأولين، وابتنى الدين عندهم على تقدسيهم، توجه علماؤهم والمنظرون لهم دينياً  -في أوج قوة الخلافة العباسية المعادية لأهل البيت (صلوات الله عليهم) - لهذا اللقب الرفيع فأطلقوه على الخلفاء الأولين على أنه حقيقة ثابتة، بحيث صار عنوان (الخلفاء الراشدون) خاصاً بهم.

وعلى ضوء ذلك فسروا حديث العرباض بن سارية المتقدم بهم، في محاولة لإضفاء الشرعية على سنتهم وسيرتهم ولو في الجملة، محرفين للحديث، أو متجاهلين للقرائن الشاهدة بخلاف ذلك مما سبق التعرض له. والله سبحانه العالم بحقائق الأمور، والعاصم من الزلل في القول والعمل.