موقف معاوية مما فعله بسر بن أرطاة

وبالمناسبة ذكر ابن أبي الحديد ما فعله بسر بن أرطاة في غارته بأمر معاوية على الحرمين وبلاد الحجاز عامة ونجد واليمن، وقتله ابني عبيد الله بن العباس وهما صبيان. ثم قال:

((وروى أبو الحسن المدائني قال: اجتمع عبيد الله بن العباس وبسر بن أرطاة يوماً عند معاوية بعد صلح الحسن (عليه السلام). فقال له ابن عباس: أنت أمرت اللعين السيء القدم[1] أن يقتل ابني؟ فقال: ما أمرته بذلك. ولوددت أنه لم يكن قتلهما. فغضب بسر، ونزع سيفه فألقاه، وقال لمعاوية: اقبض سيفك. قلدتنيه وأمرتني أن أخبط به الناس، ففعلت. حتى إذا بلغت ما أردت قلت: لم أهوَ ولم آمر. فقال: خذ سيفك. فلعمري إنك ضعيف مائق حين تلقي السيف بين يدي رجل من بني عبد مناف قد قتلت أمس ابنيه. فقال له عبيد الله بن العباس: أتحسبني يا معاوية قاتلاً بسراً بأحد ابني؟! هو أحقر وألأم من ذلك. ولكني والله لا أرى لي مقنعاً ولا أدرك ثأراً إلا أن أصيب بهما يزيد وعبد الله. فتبسم معاوية وقال: وما ذنب معاوية وابني معاوية. والله ما علمت ولا أمرت، ولا رضيت ولا هويت. واحتملها منه لشرفه وسؤدده))[2].

وقد جرى الخلف على سنن السلف، كما قال الشاعر:

نبني كما كانت أوائلنا                         تبني ونفعل مثل ما فعلوا

وعلى كل حال فالذي يظهر بعد ملاحظة الأحداث والتدبر فيها أن الجريمة بأبعادها الواقعية والعاطفية قد أخذت موقعها في نفوس المسلمين، وصارت صرخة في ضمائرهم ترعب الظالمين.

وإلا فمن غير الطبيعي أن يتراجع هذان الجباران المستهتران - مع ما هما عليه من الطيش والعنجهية - بهذه السرعة من دون أن يظهر أي وهن في قواهما المادية، أو التخلي منهما عن سياسة العنف والعنجهية في معالجة المشاكل الطارئة.

وقد صدق من قال: ما رأيت واقعة كواقعة الطف عضّ فيها المنتصر أنامله ندماً.

ويبدو أن مقام أهل البيت (صلوات الله عليهم) وفداحة مصيبتهم وآثارها السلبية على أعدائهم قد فرض نفسه على أرض الواقع حتى اضطر للاعتراف به أعداؤهم.

 


[1] قال في لسان العرب: ((الفدم من الناس: العيي عن الحجة والكلام، مع ثقل ورخاوة وقلة فهم. وهو أيضاً الغليظ السمين الأحمق الجافي)).

[2] شرح نهج البلاغة ج: ۲ ص: ۱۷، ۱۸. وقريب منه في أنساب الأشراف ج:٣ ص: ٢١٦ غارة بسر بن أرطاة القرشي.