منذ شهادة مولانا الإمام محمد الجواد(عليه السلام) والظروف السياسية المكتنفة بالطائفة الشيعية وقادتها قد تغيرت وبات من المحتم على الإمام الهادي(عليه السلام) تدريب الشيعة والفرقة الحقّة على نوع جديد من التعامل متمثلاً بالابتعاد عن أُسلوب الاتصال المباشر بالإمام(عليه السلام)، ونتيجة للضغوط الكبيرة والمخاطر الجمّة التي أحاطت بالإمام الهادي(عليه السلام) ومن شايعه واعتقد به حتى إن الإمام كان يوصي أصحابه بعدم اللقاء به بل والسلام عليه علانية حفاظاً على حياتهم ودينهم.
أكد الإمام الهادي(عليه السلام) على أسلوب الاتصال غير المباشر بالشيعة عن طريق الوكلاء أو الرسائل والمكاتبات وسار على ذات النهج الإمام الحادي عشر الحسن العسكري (عليه السلام) الذي ظل مقيماً مجبراً على الإقامة في منطقة العسكر بسامراء إلا أنه صلوات الله عليه استطاع إدارة أمور البلاد والعباد بواسطة وكلائه وقد ذكر التاريخ أسماءهم وألقابهم بل وسيرتهم.
الأمر ذاته انتهجه إمامنا المفدَّى صاحب العصر والزمان وعديل القرآن المهدي المنتظر أرواحنا وأرواح العالمين لتراب مقدمه الفداء إلا أن الأمر بات مختلفا عن نهج آبائه بشدة التستر وظهور النيابة الخاصة أو السفارة في فترة الغيبة الصغرى حيث يتصل بالإمام(عليه السلام) نائب واحد هو الوكيل الخاص يأخذ على عاتقه مهام إيصال أوامر الإمام إلى المؤمنين ومنهم إليه يحمل الأسئلة والمطالب.
النواب الأربعة:
إنّ الإمام(عليه السلام) في فترة الغيبة الصغرى كان وثيق الصلة بقواعده الشعبية لكن بطريقة تماس تتناسب مع غيبته(عليه السلام) وهذه الطريقة تمثلت بنصب السفراء.
ومسألة السفراء من المسائل المهمّة والحساسة في ذلك الوقت بمعنى: كيف نعرف أنّ هذا الشخص سفير عن الامام سلام الله عليه لا سيما وأنّنا نعلم أن هنالك من ادعى السفارة كذباً باعتبار أنّ مقام السفارة عن الامام مقام مقدس وعظيم وأقرب شيء من مقام المرجع الأعلى الوحيد للطائفة الشيعية كلها في العالم، فلا يبعد أن يتنافس عليه الكثير وأن يدّعيه الكثير، وكان للإمام المهدي (عليه السلام) في زمن الغيبة الصغرى وكما هو معروف ومشهور أربعة نواب وهم:
الأول: أبو عمرو عثمان بن سعيد العمري الأسدي وقد نُسب إلى جدّه لاُمّه الملقَّب بـ «السمّان» ويُقال له: الزيّات الأسديّ، وأمّا لقبه «السمّان» فلأنّه كان يتّجر بالسَّمن تغطيةً على نشاطه وكان الشيعة إذا حملوا إلى الإمام الحسن العسكريّ (عليه السلام) ما يجب عليهم حمله من الأموال أنفذوا إلى عثمان بن سعيد فيجعله في جراب السمن وزِقاقه ويحمله إلى الإمام (عليه السلام) تقيّةً..) [1]
ووثَّقه الإمام الهادي (عليه السلام) بقوله: ( هذا أبو عمرو الثقة الأمين، ما قاله لكم فعنّي يقوله، وما أدّاه إليكم فعنّي يؤدّيه ) [2]، ووثَّقه الإمام العسكري (عليه السلام) بمثل ذلك وترحَّم عليه الإمام المهدي (عليه السلام) عند وفاته حينما أرسل رسالة تعزية إلى ولده أبي جعفر.
وقبره بالجانب الغربيّ من مدينة السلام بغداد، في شارع الميدان في مسجد الذرب، والقبر في نفس قِبلة المسجد [3] .
الثاني: أبو جعفر محمّد بن عثمان بن سعيد العمري، لُقّب بالخلاَّني لكثرة اختلائه بأصحابه، وثَّقه الإمام العسكري (عليه السلام) وقال عنه الإمام الحجّة (عليه السلام):
(وأمَّا محمّد بن عثمان ـ رضي الله عنه وعن أبيه من قبل ـ فإنَّه ثقتي وكتابه كتابي)[4]، وكانت وكالته للإمام المهدي (عليه السلام) أطول فترات الوكالة حيث قضاها في بغداد.
كان متواضعاً قال عنه أحمد الدينوري: فصرت إلى أبي جعفر العمري فوجدته شيخاً متواضعاً عليه مبطنة بيضاء قاعداً على لبد في بيت صغير ليس له غلمان ولا له من المروّة والفرس ما وجدت لغيره[5]، وقد استعدَّ لموته وعمل ساجة خشبية نقش عليها يوم وفاته، وتوفّي في آخر جمادي الآخرة سنة 305هـ ودفن عند والدته في شارع باب الكوفة ببغداد ومرقده شاخص الآن في منطقة الباب الشرقي يسمّى: مرقد الشيخ الخلاَّني.
الثالث: هو أبو القاسم الحسين بن روح بن أبي بحر النوبختي، عيَّنه محمّد بن عثمان سفيراً ثالثاً بقوله: (هذا أبو القاسم الحسين بن روح بن أبي بحر النوبختي القائم مقامي والسفير بينكم وبين صاحب الأمر (عليه السلام) والوكيل له والثقة الأمين، فارجعوا إليه في أموركم وعوّلوا عليه في مهمّاتكم) [6] .
ووثَّقه الإمام الحجّة(عليه السلام) بقوله: (نعرفه، عرَّفه الله الخير كلّه ورضوانه وأسعده بالتوفيق، وقفنا على كتابه وثقتنا بما هو عليه، وإنَّه عندنا بالمنزلة والمحلّ اللذين يسرّانه، زاد الله في إحسانه إليه إنَّه وليٌّ قدير)[7] .
ولد في النصف الثاني من القرن الثالث الهجري وتوفّي ببغداد في الثامن عشر من شعبان سنة326هـ[8]، وكان قوي الإرادة شديد الصلابة في الحق يقول أبو سهل النوبختي: (لو كان الحجّة (عليه السلام) تحت ذيله وقرّض بالمقاريض ما كشف الذيل عنه)[9].
ومرقده ببغداد جانب الرصافة مشهور معروف مشيَّد عامر، عليه قبّة صغيرة، وفوق دكّة قبره شبّاك مُجلَّل يزدحم عليه الزائرون المتعبّدون، يُعرَف موضع قبره خلف سوق الشورجة التجاريّ ببغداد على جانب شارع الجمهورية، في زقاق غير نافذ، ويُعدّ مرقده من المراكز الشيعيّة في بغداد
الرابع: الشيخ أبو الحسن علي بن محمّد السمري أو السيمري، أو الصيمري (والمشهور السمري)، ولد في النصف الثاني من القرن الثالث[10].
قال الشيخ الطوسي: عن أبي جعفر محمّد بن علي بن الحسين بن بابويه، قال: حدَّثني أبو محمّد الحسن بن أحمد المكتَّب، قال: كنت بمدينة السلام في السنة التي توفّي فيها الشيخ أبو الحسن علي بن محمّد السمري قدس سره، فحضرته قبل وفاته بأيّام فأخرج إلى الناس توقيعاً نسخته: (بسم الله الرحمن الرحيم، يا علي بن محمّد السمري أعظم الله أجر إخوانك فيك، فإنَّك ميّت ما بينك وبين ستّة أيّام، فاجمع أمرك ولا توص إلى أحد فيقوم مقامك بعد وفاتك، فقد وقعت الغيبة التامّة، فلا ظهور إلاَّ بعد إذن الله تعالى ذكره، وذلك بعد طول الأمد، وقسوة القلوب، وامتلاء الأرض جوراً، وسيأتي شيعتي من يدَّعي المشاهدة، ألا فمن ادَّعى المشاهدة قبل خروج السفياني والصيحة فهو كذّاب مفتر، ولا حول ولا قوَّة إلاَّ بالله العلي العظيم)[11].
وقد روى أبو نصر هبة الله بن محمّد الكاتب أنَّ قبر أبي الحسن السمري (رضي الله عنه)
في الشارع المعروف بشارع الخلنجي ـ ببغداد ـ من ربع باب المحول قريب من شاطي نهر أبي عتاب[12]. وهذا القبر الآن في منطقة السراي في باب المعظَّم ببغداد.
[1] الغَيبة للشيخ الطوسي: ص214 .
[2] الغَيبة للشيخ الطوسي: ص 354.
[3] سفينة البحار للشيخ عبّاس القمّي: ج4، ص25.
[4] كمال الدين وتمام النعمة للشيخ الصدوق: ص 485.
[5] دلائل الإمامة محمد بن جرير بن رستم الطبري: ص 521.
[6] الغيبة للشيخ الطوسي: ص 371 و372.
[7] الغيبة للشيخ الطوسي: ص 372.
[8] أعيان الشيعة للسيد محسن الأمين: ج2، ص48.
[9] الغَيبة للشيخ الطوسي: ص391.
[10] أعيان الشيعة للسيد محسن الأمين: ج 2، ص48.
[11] كمال الدين وتمام النعمة للشيخ الصدوق: ص516.
[12] الغَيبة للشيخ الطوسي: ص396.