المقدمة

بسم الله الرحمن الرحيم

 

ليس الإمام المهدي (عليه السلام)  تجسيداً لعقيدة كلامية ذات طابع ديني فحسب، بل هو عنوان لطموح اتجهت إليه البشرية بمختلف أديانها ومذاهبها، وصياغة لإلهام فطري أدرك الناس من خلاله - على الرغم من تنوع عقائدهم ووسائلهم إلى الغيب - أن للإنسانية يوماً موعوداً على الأرض، تحقق فيه رسالات السماء بمغزاها الكبير وهدفها النهائي، وتجد فيه المسيرة المكدودة للإنسان على مرِّ التاريخ استقرارها وطمأنينتها بعد عناءٍ طويل، بل لم يقتصر الشعور بهذا اليوم الغيبي والمستقبل المنتظر على المؤمنين دينياً بالغيب، بل امتدَّ إلى غيرهم أيضاً وانعكس حتى على أشدِّ الايديولوجيات والاتجاهات العقائدية رفضاً للغيب والغيبيات كالمادية الجدلية التي فسَّرت التاريخ على أساس التناقضات وآمنت بيوم موعود تصفى فيه كل تلك التناقضات ويسود فيه الوئام والسلام، وهكذا نجد أن التجربة النفسية لهذا الشعور التي مارستها الإنسانية على مرّ الزمن من أوسع التجارب النفسية وأكثرها عموماً بين أفراد الإنسان.

وحينما يدعم الدين هذا الشعور النفسي العام ويؤكِّد أن الأرض في نهاية المطاف ستمتلئ قسطاً وعدلاً بعد أن ملئت ظلماً وجوراً يعطي لذلك الشعور قيمته الموضوعية ويحوله إلى إيمان حاسم بمستقبل المسيرة الإنسانية، وهذا الإيمان ليس مجرد مصدر للسلوة والعزاء فحسب، بل مصدر عطاء وقوة فهو مصدر عطاء، لأن الإيمان بالمهدي إيمان برفض الظلم والجور حتى وهو يسود الدنيا كلها، وهو مصدر قوة لانهائية، لأنه بصيص نور يقاوم اليأس في نفس الإنسان ويحافظ على الأمل المشتعل في صدره مهما ادلهمَّت الخطوب وتعمق الظلم، لأن اليوم الموعود  يثبت أن بإمكان العدل أن يواجه عالماً مليئاً بالظلم والجور فيزعزع ما فيه من أركان الظلم ويقيم بناءه من جديد، وإن الظلم مهما تجبَّر وامتدَّ في أرجاء العالم وسيطر على مقدراته فهو حالة غير طبيعية ولا بد أن ينهزم، وتلك الهزيمة الكبرى المحتومة للظلم وهو في قمة مجده يضع الأمل كبيراً أمام كل فرد مظلوم وكل أمة مظلومة في القدرة على تغيير الميزان وإعادة البناء.

وإننا نطالب أي إنسان معاصر يعلن تفاؤله وأمله في مستقبل الإنسانية أن يقنعنا بخطة ممكنة وفكرة محتملة للإصلاح العالمي والتغيير الشامل؟ ونحن نعتقد أن المنبع الوحيد لروافد الأمل والتفاؤل هو الإسلام فقط والذي يؤكد في نصوصه وتعاليمه ضرورة انبثاق فجر السعادة في مسيرة الإنسانية، ويصر على حتمية انتصار واقع العدالة والأمن والاستقرار على جحافل الظلم والشقاء والألم الذي يؤطر حياة الإنسان عبر التاريخ، الإسلام والإسلام وحده يحمل للإنسان رسالة أمل وفكرة تفاؤل تنقذ الإنسان من قلق اليأس القاتل تدعمها خطة إصلاحية شاملة وتصور تغييري متكامل، وبعد مرور  أربعة عشر قرنا من عمر هذه الرسالة الخالدة يتضح جليا هذا المعنى، إذ جربت الإنسانية حظها أكثر من مرة في وضع نظام يحقق لها العدل والصلاح في الحياة فلم تفلح، ولعل من علل وحِكَم غيبة الإمام (عليه السلام) أن تستنفد البشرية أفكارها في هذا المجال، فتُذعن بعد ذلك لممثل السماء وهو يرسم للناس طريق الخلاص الإلهي من الظلم والفساد.

مجموعة كبيرة من آيات القرآن الحكيم تؤكد هذه الحقيقة وتبشر بعهد سعيد لابد وأن يسود العالم وتنعم البشرية بالأمن والرخاء والعدالة والحرية وجميع مستلزمات الحياة الكريمة قال تعالى: (وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ)[1].

فالإسلام ما هو إلا امتداد للرسالات السماوية السابقة والتي تبشر كلها بمستقبل سعيد للإنسانية، فلابد وأن يكون حكم الأرض وسيادة العالم للطليعة المؤمنة الصالحة، وحينما يكون الحكم بيد طليعة مؤمنة صالحة فتلك هي فرصة السعادة وعهد الرخاء.

ويقول تعالى: (إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ)[2]، فالرسل هم دعاة السعادة والعدالة والحرية وأتباعهم الذين نذروا أنفسهم لخدمة تلك الأهداف المقدسة، هؤلاء الرسل وأتباع الرسل كم عانوا من الأذى والألم والاضطهاد، إن معاناة الرسل والأتباع أشد من معاناة سائر الناس، لأن الرسل وأتباعهم كانوا يتزعمون جبهة النضال والجهاد من أجل سعادة البشرية وكرامتها ولذلك فقد اتجهت حراب الظلم والطغيان نحو صدورهم السامية مما صيّر حياة الأنبياء وأتباعهم قطعة من الألم والعذاب في سبيل الله، ولكن اللَّه تعالى يتعهد لجميع الرسل والمؤمنين بأهدافهم النبيلة.. يتعهد بإتاحة الفرصة لهم في هذه الحياة ليقطفوا ثمار جهادهم وجودهم وليتذوقوا حلاوة النصر العاجلة في الدنيا بالإضافة إلى ثواب اللَّه الآجل في الآخرة.

(هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ)[3]، وقد تكررت هذه الآية ثلاث مرات في القرآن الكريم لتؤكد وعد اللَّه بسيطرة الدين الإسلامي على ربوع المعمورة وظهوره الفعلي والتطبيقي بعد فشل جميع المبادئ والأديان الأخرى.

(وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ)[4]، إنها لآيات صريحة كلها تؤكد انتصار الحق أخيراً وأخذه بزمام العالم إلى شاطئ الأمن والإيمان، ولاشك أن هذه الوعود لم تتحقق فيما مضى من تاريخ الإنسان وليست متحققة في واقع الإنسان المعاصر، فليس أمامنا إذن إلا التشكيك بصدق هذه الوعود -والعياذ باللّه- أو الإيمان بأنها ستتحقق في المستقبل، وإذا كان لا يمكننا التشكيك في صحة هذه الوعود وصدقها لأنها
(وَعْدَ اللَّهِ لاَ يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ)[5]  و(إِنَّ اللّهَ لاَ يُخْلِفُ الْمِيعَادَ)[6]، فلابد لنا إذن من الاطمئنان بأن هذه الوعود ستصبح حقيقة واقعة في مستقبل الحياة وإن طال الأمد. 

 


[1] سورة الانبياء: آية 105.

[2] سورة غافر: آية51.

[3] سورة الصف: آية9 .

[4] سورة القصص:آية5.

[5] سورة الروم:آية6.

[6] سورة آل عمران:آية9.