ذكرنا أن الإمام العسكري (عليه السلام) كان بصدد تهيئة شيعته لعصر الغيبة، وكان من جملة أفعاله في هذا الاتجاه أنه نعى نفسه المقدسة لأصحابه في أكثر من مناسبة، وكتب كتباً لهم قبل ليلة من وفاته، كي لايفجأهم الأمر ولا يهولهم الاختلاف الحاصل بسبب الانتقال من الإمامة الظاهرة إلى عصر الإمامة الغائبة.
فقد ورد عن المسعودي: « أمر أبو محمد (عليه السلام) والدته بالحج في سنة ٢٥٩،
وعرّفها ما يناله في سنة (٢٦٠)، وأحضر الصاحب (عليه السلام) فأوصى إليه، وسلّم الاسم الأعظم والمواريث والسلاح إليه، وخرجت اُمّ أبي محمد مع الصاحب (عليه السلام)
جميعاً إلى مكة، وقبض (عليه السلام) في شهر ربيع الآخر سنة ٢٦٠ه»[1].
وقال الشيخ الصدوق: (وجدت مثبتاً في بعض الكتب المصنفة في التواريخ ولم أسمعه إلا عن محمد بن الحسين بن عباد أنه قال: مات أبو محمد الحسن بن علي (عليهما السلام)
يوم الجمعة مع صلاة الغداة، وكان في تلك الليلة قد كتب بيده كتباً كثيرة إلى المدينة، وذلك في شهر ربيع الأول لثمان خلون منه سنة ستين ومائتين من الهجرة، ولم يحضره في ذلك الوقت إلا صقيل الجارية، وعقيد الخادم ومن علم الله عزوجل غيرهما ...)[2].
تاريخ شهادته (عليه السلام):
قال الشيخ المفيد: مرض أبو محمد الحسن(عليه السلام) في أول شهر ربيع الأول سنة ٢٦٠ ه، ومات يوم الجمعة لثمان خلون من هذا الشهر في السنة المذكورة[3].
وحينما نعاه الناعي إبّان شهادته « صارت سامراء ضجّة واحدة: مات ابن الرضا ... وعطّلت الأسواق، وركب سائر الناس إلى جنازته، فكانت سامراء يومئذٍ شبيها بالقيامة»[4].
سبب شهادته (عليه السلام):
إن دراسة الأخبار الواصلة إلينا عن المدّة القصيرة من إمامة الإمام العسكري (عليه السلام) (٢٥٤ ـ ٢٦٠ ه ) تقودنا إلى الاعتقاد بأن السلطة العباسية كانت منذ زمن المعتز (٢٥٢ ـ ٢٥٥ ه ) بصدد الفتك بالإمام قبل أن يُولَد له، ذلك لأنّها تعتقد أن المولود له هو المهدي الموعود خاتم أئمة الحق الاثني عشر(عليهم السلام)
الذي يقصم الجبارين، ويبدد دول الظالمين، ويرسي دعائم دولة الحق، وينشر العدل والقسط، وقد حاول المعتز تنفيذ تلك السياسة، حيث أمر سعيد بن صالح الحاجب أن يحمل الإمام العسكري(عليه السلام) إلى الكوفة ويضرب عنقه في الطريق، فاجتهد الإمام(عليه السلام) بالدعاء عليه، فقُتل قبل أن ينفذ عزمه[5].
وروى ثقة الإسلام الكليني بالإسناد عن أحمد بن محمد بن عبد الله، قال: «خرج عن أبي محمد (عليه السلام) حين قتل الزبيري: هذا جزاء من اجترأ على الله في أوليائه، يزعم أنه يقتلني وليس لي عقب، فكيف رأى قدرة الله فيه؟ وولد له ولد سماه محمداً»[6].
وحاول المهتدي العباسي (٢٥٥ ـ ٢٥٦ه ) تنفيذ هذه السياسة، فهدّد الإمام (عليه السلام) بالقتل قائلاً: «والله لأجلينهم عن جديد الأرض، غير أنه قتل قبل تنفيذ هذا الغرض»[7].
ولم يخرج المعتمد (٢٥٦ ـ ٢٧٩ ه) عن هذا الإطار، فتعرض الإمام العسكري (عليه السلام) في زمانه لشتّىٰ أنواع التحديات والضغوط، وحاول قتل الإمام (عليه السلام)
لنفس السبب الذي قدّمناه، وهو الاطمئنان بانقطاع الإمامة، على الرغم من حدوث الولادة في زمان المعتمد، لأن الدولة على المستوى الرسمي لم تكن مطلعة عليها، بسبب اجراءات الإمام (عليه السلام) القائمة على أساس الكتمان والسرية في هذا الأمر، وأبى الله سبحانه إلا أن يتمّ نوره، فأخفى وليه الذي ينتظره العالم كلّه ليملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً.
روى الشيخ الصدوق بالإسناد عن سعد بن عبد الله، قال: حدثني موسى بن جعفر بن وهب البغدادي، أنه خرج من أبي محمد (عليه السلام) توقيع: «زعموا أنّهم يريدون قتلي ليقطعوا هذا النسل، وقد كذب الله عزوجل قولهم والحمد لله»[8].
وتكذيب قولهم كان بحدوث الولادة المباركة وحفظه مع أبيه (عليه السلام) من تحديات السلطة.
ومما تقدم يتبين أن واقع الحال يشير إلى أن المعتمد متّهم بقتل الإمام (عليه السلام)، فضلاً عن أنه ورد التصريح بموت الإمام (عليه السلام) مسموماً عن كثير من محدثي الشيعة وغيرهم.
قال أمين الإسلام الطبرسي: «ذهب كثير من أصحابنا إلى أنه (عليه السلام) مضى مسموماً، وكذلك أبوه وجده وجميع الأئمة (عليهم السلام) خرجوا من الدنيا بالشهادة، واستدلوا على ذلك بما روي عن الصادق(عليه السلام) من قوله: ما منا إلا مقتول شهيد. والله أعلم بحقيقة ذلك»[9].
وصرّح بعض أعلام الشيعة في أراجيزهم بموت الإمام (عليه السلام) مسموماً من قبل المعتمد، مؤكدين على ما يقوّي هذا الاحتمال، من كون الإمام (عليه السلام) في سن الشباب، وأوج الصحة والقوة والعنفوان.
قال الحرّ العاملي في أرجوزته:
قتله بسمّــــه المعـتمــــد بقوّة يرقّ منها الجلمد
وعمره تسع وعشرون وقد قيل ثمان بعد عشرين فُقِد
وعاش من بعد أبيه خمســا وقيل ستاً ثمّ حلّ الرمسا[10]
وقال الشيخ محمد حسين الاصفهاني:
حتى قضى العمر بما يقــاسي فسمّه المعتمد العباسي
قضى على شــبابه مسمــوما مضطهداً محتسباً مظلوما
فناحت الحور على شبــــابه وصبّت الدموع في مصابه
وانصدعت لرزئه الجبـــال كأنه الساعة والأهوال[11]
الصلاة على الإمام (عليه السلام):
روي عن أحد خدم الإمام العسكري (عليه السلام) أنه قال في حديث طويل: « ... فلما همّ (جعفر) بالتكبير خرج صبي بوجهه سمرة، بشعره قطط، بأسنانه تفليج، فجبذ برداء جعفر بن علي، وقال: تأخّر يا عم، فأنا أحقّ بالصلاةِ على أبي، فتأخر جعفر وقد اربدّ وجهه واصفرّ»[12].
وفي حديث آخر يصف لنا صلاة الإمام المهدي(عليه السلام) على أبيه لم يرد فيه ذكر عمه جعفر، رواه الشيخ الطوسي عن أحمد بن عبد الله الهاشمي من ولد العباس، قال: «حضرت دار أبي محمد الحسن بن علي (عليه السلام) بسرّ من رأى يوم توفي، واُخرجت جنازته ووضعت، ونحن تسعة وثلاثون رجلاً قعود ننتظر حتى خرج إلينا غلام عشاري[13] حافٍ عليه رداء قد تقنّع به، فلمّا أن خرج قمنا هيبةً له من غير أن نعرفه، فتقدم وقام الناس فاصطفوا خلفه فصلى، ومشىٰ فدخل بيتاً غير الذي خرج منه»[14].
[1] إثبات الوصية، للمسعودي: ٢٥٥ ـ ٢٥٦.
[2] إكمال الدين وتمام النعمة للشيخ الصدوق :ص ٤٧٣.
[3] الإرشاد الشيخ المفيد :ج٢،ص ٣٣٦ .
[4] إكمال الدين وتمام النعمة للشيخ الصدوق :ص ٤٣.
[5] مناقب آل أبي طالب ابن شهر آشوب :ج4، ص ٤٦٤.
[6] الكافي للشيخ الكليني :ج1،ص329.
[7] الكافي للشيخ الكليني: ج1،ص510 .
[8] إكمال الدين وتمام النعمة للشيخ الصدوق،ص ٤٠٧.
[9] إعلام الورى للشيخ الطبرسي : ج2، ص ١٣١.
[10] شرح إحقاق الحق: ج١٢، (الهامش ) ص ٤٦1.
[11] الأنوار القدسية الشيخ محمد حسين الاصفهاني : ص ١٠٩.
[12] إكمال الدين وتمام النعمة للشيخ الصدوق : ص 475.
[13] قيل: المراد عشاري السنّ، أي كأنّ له عشر سنين مع أنّ عمره نحو خمس .
[14] الغَيبة للشيخ الطوسي: ص259.