التمهيد لغيبة ولده الحجة (عليه السلام)

سار الإمام العسكري (عليه السلام) على خطى أبيه (عليه السلام) في التخطيط لمستقبل الإمامة والتحضير لزمان الغيبة بتهيئة المقدمات الضرورية للانتقال من مرحلة الإمامة الظاهرة إلى الإمامة الغائبة، وتعويد الشيعة على ذلك فكراً وسلوكاً.

وكانت المهمة التي نهض بها الإمام العسكري(عليه السلام) في هذا السبيل صعبة للغاية، ذلك لأنه والد الإمام الثاني عشر (عليه السلام) ويقع عليه العبء الأكبر في ترسيخ مبدأ الغيبة التي بدأت تباشيرها وأوشك زمانها في وقت عصيب عملت فيه السلطة الحاكمة على عزل الإمام (عليه السلام) عن أصحابه ومواليه وشدّدت الرقابة عليه، ووقفت ضدّه وضدّ فكرة الغيبة بالذات، سيما وأنهم يدركون أنه قد آن أوانها وأن الإمام الثاني عشر على وشك الولادة، مما يهدّد كيانهم ويقضّ مضاجعهم، فالتبليغ في هذا الاتجاه يعتبر في منطق السلطة خروجاً وتحدياً يستحق أقصى العقاب.

لكن مع ذلك استطاع إمامنا الممتحن الصابر(عليه السلام) أن ينهض بهذه المهمة العسيرة بكلّ جدارة وقوة، فعمل على تأصيل هذا المبدأ الذي هو من صميم الدين وضرورياته في نفوس أصحابه، للحفاظ على خطّهم الرسالي من الضياع والانهيار والتحذير من الاختلاف والفرقة وغيرها من التداعيات المحتملة للفترة الانتقالية من الظهور إلى الغيبة، كما استطاع أن يتّخذ تدابير الحيطة والسرية للحفاظ على حياة ولده الإمام  الحجة (عليه السلام) من براثن السلطة وأدوات رقابتها وقمعها.

من هنا يمكن تلخيص نشاط الإمام العسكري(عليه السلام) في هذا الاتجاه بما يأتي:

١ـ التمهيد العملي للغيبة

من البديهي أنه لو غاب الإمام الحجة (عليه السلام) عن شيعته، وأوكل إدارة اُمورهم ابتداءً إلى القيّم أو السفير الذي يعيّنه لأداء هذه المهمة، لكان ذلك مدعاة للاستغراب، ولتولّد عنه مضاعفات ونتائج غير محمودة.

من هنا فقد اتخذ الإمام العسكري(عليه السلام) ومن قبله أبوه (عليه السلام) اُسلوباً شبيهاً بمنهج الإمام المهدي(عليه السلام) في الاحتجاب عن الناس وإيكال أمر تبليغ الأحكام وقبض الحقوق المالية وإيصال التواقيع الصادرة عن الإمام (عليه السلام) إلى الوكلاء الذين يختارهم من خاصة أصحابه، لغرض تهيئة الذهنية العامة كي تستسيغ هذا الأسلوب ويحسن تقبّلها له.

قال المسعودي في أواخر (إثبات الوصية): (روي أنّ أبا الحسن صاحب العسكر (عليه السلام) احتجب عن كثير من الشيعة إلا عن عددٍ يسير من خواصّه، فلما أفضى الأمر إلى أبي محمد (عليه السلام) كان يكلم شيعته الخواص وغيرهم من وراء الستر إلا في الأوقات التي يركب فيها إلى دار السلطان، وإن ذلك إنما كان منه ومن أبيه قبله مقدمةً لغيبة صاحب الزمان (عليه السلام) لتألَفَ الشيعةُ ذلك، ولا تنكر الغيبة، وتجري العادة بالاحتجاب والاستتار)[1].

وحينما يطغى اُسلوب الاحتجاب على معظم حياة الإمام (عليه السلام)، يكون اتخاذ نظام الوكلاء ألزم وأقرب، وكان هذا النظام ـ أي نظام الوكلاء ـ معمولاً به حتى قبل الإمامين العسكريين(عليهما السلام)،  لأنّه يحقّق ارتباط الأئمة (عليهم السلام) بالبلاد البعيدة ذات القواعد الموالية لهم(عليهم السلام)، لكنه أصبح ظاهرة ملموسة تمارسها حتى القواعد القريبة خلال إمامة العسكريين (عليهما السلام).

وكان من بين الوكلاء الذين اعتمدهم الإمام العسكري (عليه السلام) للنهوض بهذا الأمر: إبراهيم بن عبدة النيسابوري، وأحمد بن إسحاق الأشعري، وأيوب ابن نوح بن دراج، وجعفر بن سهيل الصيقل، وحفص بن عمرو العمري، وأبو عمرو عثمان بن سعيد العمري، وعلي بن جعفر الهمّاني، والقاسم بن العلاء الهمداني، ومحمد بن أحمد بن جعفر القمي، وأبو جعفر محمد بن عثمان بن سعيد العمري، ومحمد بن صالح بن محمد الهمداني وغيرهم.

ويمكن القول: إن وكالة عثمان بن سعيد للإمام العسكري (عليه السلام) كانت بمثابة التمهيد للسفارة المهدوية ؛ لأنّ عثمان بن سعيد كان السفير الأول للإمام الحجة (عليه السلام)، وذلك مما يزيد من ثقة الشيعة به، سيما وإنّه منصوص على وثاقته وأمانته وعدالته وصلاحه لهذا الأمر من قبل الإمامين العسكريين(عليهما السلام)[2].

وكانت أداة الإمام  (عليه السلام) في الإتصال بشيعته هي المكاتبات والتواقيع التي يتحمّل الوكيل العبء الأكبر في إيصالها من وإلى الإمام (عليه السلام)، فكان الأصحاب يكتبون إلى الإمام (عليه السلام) بعض المسائل التي تشكل عليهم في اُمور دينهم ودنياهم، والإمام (عليه السلام) يجيب عليها عن طريق التواقيع.

وقد تفشّى هذا الأسلوب حتى اتخذت المكاتبات والتواقيع حيّزاً واسعاً في تراث الإمامين العسكريين(عليهما السلام)، وبلغت من الكثرة بحيث أصبحت مادة للجمع والتأليف من قبل بعض الأصحاب المعاصرين للعسكريين (عليهما السلام)، ومنهم: عبد الله بن جعفر الحميري، الذي صنّف (مسائل الرجال ومكاتباتهم لأبي الحسن الثالث (عليه السلام)) و(مسائل لأبي محمد الحسن (عليه السلام) على يد محمد بن عثمان العمري) و(مسائل أبي محمد وتوقيعاته)[3]، وعلي بن جعفر الهمّاني البرمكي، وله (مسائل لأبي الحسن (عليه السلام))[4]، ومحمد بن الحسن الصفار ت ٢٩٠ ه‍، وله (مسائل كتب بها إلى أبي محمد الحسن العسكري (عليه السلام))[5]، ومحمد بن الريان بن الصلت الأشعري، وله (مسائل لأبي محمد الحسن العسكري(عليه السلام))[6]، ومحمد ابن سليمان ابن الحسن الزراري، وله (مسائل وجوابات لأبي محمد الحسن العسكري (عليه السلام))[7]، ومحمد بن علي بن عيسى القمي، وله ( مسائل لأبي محمد العسكري (عليه السلام))[8]    وغيرهم.

وصفوة القول: إن الإمام العسكري(عليه السلام) استطاع من خلال التخطيط للارتباط به عن طريق الوكلاء، أن يمهّد لنفس الأسلوب الذي اعتمده ولده الإمام المهدي  (عليه السلام) خلال غيبته الصغرى (٢٦٠ ـ ٣٢٩هـ ) وبذلك اعتاد الشيعة هذا الأمر وتقبّلوه بشكل تدريجي يزيح معه كلّ عوامل الارتياب والشكّ، وهكذا كانت غيبة الإمام الصغرى أيضاً تمهيداً للغيبة الكبرى التي أمر الإمام  (عليه السلام) شيعته بالرجوع إلى رواة حديثهم واتّباع الفقهاء العدول من أتباع مدرستهم. 

٢ـ النصّ على ولده المهدي (عليه السلام) وعرضه على أصحابه:

وهذا الأمر يتطلب المزيد من الحذر والحزم والموازنة بين نقيضين،

الأول: يتطلب عرض الإمام المهدي (عليه السلام) على أصحابه للتأكد من ولادته والإشهاد عليها وإثبات النص عليه.

والثاني: يتطلب إخفاء ولادته والتكتم على شخصه خشية من السلطة التي كانت مستعدة لبذل مختلف وسائل الإغراء والتهديد في سبيل القبض عليه.

وقد استطاع الإمام العسكري (عليه السلام) الموازنة بين الأمرين متحرياً الحيطة والدقة، متبعاً أقصى درجات السرية والكتمان، حيث حدثت الولادة المباركة في النصف من شعبان سنة ٢٥٥ ه‍، وجهد الإمام العسكري (عليه السلام) خلال السنوات الخمس التي قضاها مع ابنه المهدي (عليه السلام) في إخفاء ولادته واسمه ومكانه وسائر اُموره عن أسماع السلطة ومراقبة عيونها.

فمن أساليب الكتمان أنه (عليه السلام) لم يعقَّ عن ابنه(عليه السلام) في داره، بل أوصى أحد أصحابه لأداء هذه المهمة، وقد روي أنه (عليه السلام) أمر أبا عمرو عثمان بن سعيد أن يعقَّ عنه بكذا وكذا شاة[9].

كما روي أنه (عليه السلام) وجّه إلى إبراهيم بن إدريس بكبشين، وكتب إليه «عقّّ هذين الكبشين عن مولاك، وكُلْ هنأك الله، وأطعم إخوانك»[10].

أما من حيث تبليغ أصحابه بالولادة أو النص، فمن الطبيعي أنّهم يختلفون في مقدار ضبطهم وصمودهم أمام وسائل الإغراء والتهديد من قبل الجهاز الحاكم، لهذا اختار الإمام العسكري (عليه السلام) من أصحابه الأشخاص الذين يتوقع منهم صلابة الإرادة وقوة الإيمان وعمق الإخلاص، وحمّلهم أمانة الوصية ومسؤولية النص على ولده الحجة(عليه السلام) بعد عرضه عليهم.

ورد في الحديث أنه (عليه السلام)  كان يتخيّر لهذه المهمة الأقرب لقرابته والأولى لولايته وذوي الكرامة عند الله سبحانه، ومع ذلك يأخذ عليهم العهد بالكتمان ويوصيهم بالستر والسريّة.

ففي كتابٍ له (عليه السلام)  بخطّه بعثه إلى أحمد بن إسحاق بن سعد الأشعري، جاء فيه: «وُلِد لنا مولود، فليكن عندك مستوراً، وعن جميع الناس مكتوماً، فإنا لم نُظهر عليه إلا الأقرب لقرابته والولي لولايته، أحببنا إعلامك ليَسُرك الله به، مثل ما سرنا به، والسلام»[11].

وجاء في حديث آخر: «يا أحمد بن إسحاق، لولا كرامتك على الله عزوجل وعلى حججه، ما عرضتُ عليك ابني هذا، إنّه سمي رسول الله (صلى الله عليه وآله)  وكَنيّه، الذي يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت جوراً وظلماً»... إلى أن قال: «يا أحمد بن إسحاق هذا أمر من أمرالله، وسرّ من سرّ الله، وغيب من غيب الله، فخذ ما آتيتك واكتمه، وكن من الشاكرين تكن معنا في علّيين»[12].

٣ ـ بيان التكليف في زمان الغيبة:

سبق عن النبي المصطفى (صلى الله عليه وآله) وأهل بيته المعصومين (عليهم السلام) في أحاديث كثيرة  التأكيد على الغيبة وحتمية تحققها وضرورة الإيمان بها، وكونها سبباً للابتلاء والتمحيص والحيرة، مما يتطلب مستوى عالياً من الصبر وانتظار الفرج، للثبات على الدين، وتقوية نوازع الإخلاص والاستقامة وقوة الإرادة رجاء اليوم الموعود بظهور المصلح والاستخلاف في الأرض وتأسيس دولة الحق في آخر الزمان.

وسار الإمام العسكري (عليه السلام)  في ذلك على خطى آبائه (عليهم السلام)، ويمكن تلخيص دوره في هذا الاتجاه بالنقاط الآتية:

أ- معرفة الحجة رغم طول الغيبة والحيرة، ففي حديث محمد بن عثمان العمري، قال: «سمعت أبي يقول: سئل أبو محمد الحسن بن علي (عليه السلام)  وأنا عنده عن الخبر الذي روي عن آبائه (عليهم السلام): أنّ الأرض لا تخلو من حجة لله على خلقه إلى يوم القيامة، وأن من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية، فقال (عليه السلام): إنّ هذا حق كما أنّ النهار حقّ، فقيل له: يا بن رسول الله، فمن الحجة والإمام بعدك ؟ فقال: ابني محمد، هو الإمام والحجة بعدي من مات ولم يعرفه مات ميتة جاهلية، أما إنّ له غيبة يحار فيها الجاهلون، ويهلك فيها المبطلون، ويكذب فيها الوقّاتون، ثم يخرج فكأني أنظر إلى الأعلام البيض تخفق فوق رأسه بنجف الكوفة»[13].

ب- التحذير من الاختلاف والشكّ والدعوة إلى الثبات على الدين، كما جاء عن  الإمام العسكري(عليه السلام): «... هذا إمامكم من بعدي وخليفتي عليكم، أطيعوه ولا تتفرقوا من بعدي في أديانكم فتهلكوا، أما إنّكم لا ترونه بعد يومكم هذا حتى يتم له عمر، فاقبلوا من عثمان ما يقوله، وانتهوا إلى أمره، واقبلوا قوله، فهو خليفة إمامكم والأمر إليه... في حديث طويل ...»[14].

وحذّر (عليه السلام) في أكثر من مناسبة أصحابه من أن تميل بهم الأهواء أو تعصف بقلوبهم الفتن لطول الغيبة وشدّة الريبة، وأكد على ضرورة التمسك بالإمام من بعده وطاعته، كما ورد في حديث موسى بن جعفر بن وهب البغدادي، قال: «سمعت أبا محمد الحسن بن علي(عليهما السلام) يقول: كأني بكم وقد اختلفتم بعدي في الخَلَف منّي، أما إن المقرّ بالأئمة بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله) المنكر لولدي، كمن أقرّ بجميع أنبياء الله ورسله ثمّ أنكر نبوة رسول الله (صلى الله عليه وآله)، والمنكر لرسول الله (صلى الله عليه وآله) كمن أنكر جميع أنبياء الله، لأن طاعة آخرنا كطاعة أولنا، والمنكر لآخرنا كالمنكر لأولنا، أما إنّ لولدي غيبة يرتاب فيها الناس إلا من عصمه الله عز وجل»[15].

ج - التأكيد على الصبر وانتظار الفرج في أيام الغيبة لربط الأمة بقائدها المنتظر حتى يأذن الله بظهور دولته وانطلاق دعوته، ومن ذلك ما كتبه الإمام العسكري (عليه السلام) إلى أبي الحسن علي بن الحسين بن بابويه القمي «عليك بالصبر وانتظار الفرج، قال النبي (صلى الله عليه وآله): أفضل أعمال اُمتي انتظار الفرج، ولا تزال شيعتنا في حزن حتى يظهر ولدي الذي بشّر به النبي (صلى الله عليه وآله) يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت جوراً وظلماً، فاصبر يا شيخي يا أبا الحسن عليّ، وأمر جميع شيعتي بالصبر، فإنّ الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين ...»[16].

 


[1] إثبات الوصية للمسعودي: ص٢٧٢.

[2] الغَيبة للشيخ الطوسي: ص354 .

[3] رجال النجاشي:  ص٢٢٠.

[4]     رجال النجاشي: ص ٢٨٠ .

[5] الفهرست  للشيخ الطوسي: ص ٤٠8.

[6] رجال النجاشي: ص٣٧٠ .

[7] رجال النجاشي:ص ٣٤٧ .

[8] رجال النجاشي: ص371.

[9] إكمال الدين  وتمام النعمة للشيخ الصدوق: ص٤٣١.

[10] الغَيبة للشيخ الطوسي :ص ٢٤٦.

[11] إكمال الدين وتمام النعمة للشيخ الصدوق :ص 434.

[12]  إكمال الدين وتمام النعمة للشيخ الصدوق: ص384.

[13] إكمال الدين وتمام النعمة للشيخ الصدوق :ص ٤٠٩.

[14] الغَيبة للشيخ الطوسي:ص ٣٥٧.

[15] إكمال الدين وتمام النعمة للشيخ الصدوق: ص ٤٠٩.

[16] إكمال الدين وإتمام النعمة للشيخ الصدوق: ص408.