دوره (عليه السلام) في ترسيخ العقائد الإسلامية

نحاول هنا تسليط الضوء على بعض الكلمات الربانية والنفحات القدسية التي وردت عن الإمام العسكري (عليه السلام) في شؤون العقيدة وعلم الكلام، وما يتصل بذلك من التمهيد لغيبة ولده الحجة المهدي (عليه السلام)، والتعرض لبعض الأفكار المنحرفة لردّها وتفنيدها، وهي كما يأتي:

أولاً: كلماته (عليه السلام)  في التوحيد:

ففي باب التوحيد لم يدع الإمام (عليه السلام) مناسبة دون أن يوجّه أصحابه إلى التوحيد الخالص والتحذير من رواسب الشرك مهما دقّت وصغرت، ومن ذلك ما رواه أبو هاشم الجعفري قال: «سمعت أبا محمد(عليه السلام) يقول: من الذنوب التي لا تغفر قول الرجل: ليتني لا أؤاخذ إلا بهذا، فقلت في نفسى: إن هذا لهو الدقيق، ينبغي للرجل أن يتفقّد من أمره ومن نفسه كلّ شيء، فقال (عليه السلام): يا أبا هاشم، صدقت فالزم ما حدّثت به نفسك، فإنّ الاشراك في الناس أخفى من دبيب الذرّ على الصفا في الليلة المظلمة، ومن دبيب الذرّ على المِسح[1] الأسود»[2]

وكان الجدل يدور في صفات الله تعالى منذ عهد الإمام الباقر (عليه السلام) حتى عهد الإمام العسكري(عليه السلام)، ولعلّ أبرز المسائل التي كانت مدار البحث والجدل هي مسألة الرؤية والتجسيم والتصوير، وكان منهج الأئمة (عليهم السلام)  هو أنهم يتحدثون بلغة القرآن وباُسلوبه وبمفرادته في العقيدة، ليوجّهوا الناس إلى الأخذ بالعناوين الحساسة في العقيده من القرآن الكريم لا من غيره.

فعن يعقوب بن إسحاق، قال: «كتبت إلى أبي محمد (عليه السلام) أسأله: كيف يعبد العبد ربّه وهو لا يراه؟ فوقّع (عليه السلام): يا أبا يوسف، جلّ سيدي ومولاي والمنعم عليّ وعلى آبائي أن يُرى ».

قال: وسألته: «هل رأى رسول الله (صلى الله عليه وآله) ربه؟ فوقّع (عليه السلام): إنّ الله تبارك وتعالى أرى رسوله بقلبه من نور عظمته ما أحبّ»[3].

وعن سهل بن زياد، قال: «كتبت  إلى أبي محمد(عليه السلام) سنة خمس وخمسين ومائتين: قد اختلف يا سيدي أصحابنا في التوحيد - وهذا يدلّ على أن الجدل الكلامي في التوحيد كان يدور حتى في أوساط أتباع أهل البيت (عليهم السلام) - فمنهم من يقول هو جسم، ومنهم من يقول: هو صورة، فإن رأيت يا سيدي أن تعلمني من ذلك ما أقف عليه ولا أجوزه، فعلت متطولاً على عبدك؟ فوقّع بخطّه(عليه السلام): سألت عن التوحيد، وهذا عنكم معزول[4]، الله واحد أحد، لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد، خالق وليس بمخلوق، يخلق تبارك وتعالى ما يشاء من الأجسام وغير ذلك وليس بجسم، ويصور ما يشاء وليس بصورة، جلّ ثناؤه وتقدّست أسماؤه أن يكون له شبه، هو لا غيره، ليس كمثله شيء وهو السميع البصير»[5].

فلقد أراد (عليه السلام) أن ينهى السائل عن  الاستغراق في الجدل الكلامي الدائر حول توحيد الله سبحانه وتعالى، وطلب إليه أن يقرأ كتاب الله فيما أنزله من آياته، فهو أعرف بنفسه من مخلوقاته كلها، لأن المخلوق لا يستطيع أن يعرف من ربّه إلا ما عرّفه ربه، وإلا فلا يمكن للعقل أن يدرك صفاته جل جلاله ذاتياً، فهو ليس بجسم لأنّه خالق الأجسام، وهو ليس بصورة لأنّه خالق الصورة ومبدعها.

ثانياً: كلماته (عليه السلام) في الإمامة:

أكد الإمام العسكري (عليه السلام) في الكثير من كلماته على فرض الولاية لأهل البيت (عليهم السلام) وضرورة معرفتهم والتصديق بهم والتمسك بهديهم وأداء حقوقهم التي جعلها الله لهم، ولولا ذلك لا يستكمل المرء خصال الإيمان.

ومن ذلك ما جاء في كتابٍ له (عليه السلام) إلى إسحاق بن إسماعيل النيسابوري: (... إنّ الله بمنّه ورحمته لمّا فرض عليكم الفرائض، لم يفرض ذلك عليكم لحاجةٍ منه إليكم، بل برحمة منه ـ لا إله إلا هو ـ عليكم، ليميز الخبيث من الطيب، وليبتلي ما في صدوركم، وليمحص ما في قلوبكم،  لتسابقوا إلى رحمة الله ولتتفاضل منازلكم في جنته، ففرض عليكم الحج والعمرة وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة والصوم والولاية، وجعل لكم باباً تستفتحون به أبواب الفرائض، ومفتاحاً إلى سبيله، لولا محمد(صلى الله عليه وآله) والأوصياء من ولده (عليهم السلام)  لكنتم حيارى كالبهائم، لا تعرفون فرضاً من الفرائض، وهل تدخل مدينة إلا من بابها، فلمّا مّن عليكم بإقامة الأولياء بعد نبيكم، قال الله في كتابه: (اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسلام دِينًا)[6]، وفرض عليكم لأوليائه حقوقاً أمركم بأدائها ليحلَّ لكم ماوراء ظهوركم من أزواجكم وأموالكم ومآكلكم ومشاربكم، قال الله تعالى: (قُل لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلا المَوَدَّةَ فِي القُرْبَى)[7].[8]

وفي حديث أبي هاشم الجعفري: «أنّ الإمام العسكري (عليه السلام) قال له مبيناً منزلة أهل البيت (عليهم السلام): ... ما ظنك بقومٍ مَن عرفهم عرف الله، ومَن أنكرهم أنكر الله، ولا يكون مؤمناً حتى يكون لولايتهم مصدقاً، وبمعرفتهم موقناً»[9].

قال أبو هاشم: «وقلت في نفسي: اللهمّ اجعلني في حزبك وفي زمرتك، فأقبل عليّ أبو محمد (عليه السلام) فقال: أنت في حزبه وفي زمرته إن كنت بالله مؤمناً ولرسوله مصدقاً، وبأوليائه عارفاً، ولهم تابعاً، فأبشر ثم أبشر»[10].

فالانتماء إلى حزب الله ليس مجرد دعوى، بل هو ارتباط عقائدي ومنهج سلوكي يقتضي الإيمان بالله والتصديق برسوله (صلى الله عليه وآله) ومعرفة أوليائه، وبذلك حدّد (عليه السلام) مبدأ الولاية لله وللرسول (صلى الله عليه وآله) ولعترته الطاهرة (عليهم السلام).

وفي حديث آخر عن الحسن بن ظريف بيّن فيه الإمام العسكري (عليه السلام) المصداق البارز لحزب الله عند اختلاف الكلمة، قال: ( كتبت إلى أبي محمد (عليه السلام) أسأله: ما معنى قول رسول الله لأمير المؤمنين  (عليه السلام): من كنت مولاه فعلي مولاه؟ فقال: أراد بذلك أن جعله علماً يعرف به حزب الله عند الفرقة)[11].

 


[1] المِسح: بكسر الميم، وهو البساط من شعر يقعد عليه.

[2] الغَيبة للشيخ الطوسي: ص٢٠٧.

[3] أصول الكافي للشيخ الكليني :ج١،ص ٩٥.

[4] أي لستم مكلفين بأن تخوضوا فيه بعقولكم بل اعتقدوا ما نزل الله تعالى إليكم من صفاته، أو ليس لكم السؤال بل بين الله تعالى لكم

[5]  أصول الكافي للشيخ الكليني: ج ١،ص 103.

[6] سورة المائدة:آية ٣.

[7] سورة الشورى:آية 23.

[8] علل الشرائع للشيخ الصدوق :ج١،ص ٢٩١.

[9] الثاقب في المناقب ابن حمزة الطوسي :ص567.

[10] إعلام الورى للشيخ الطوسي:ج2، ص ١٤٣.

[11] كشف الغمة للإربلي :ج3،ص 219.