عاش الإمام العسكري (عليه السلام) في القرن الثالث الهجري، حيث كانت المدارس الفكرية فيه قد اكتملت معالمها، في المجالات المختلفة كالفقه ومذاهبه، والتفسير والكلام وأصول الفقه، والفلسفة والحديث وغيرها.
وقد تحددت معالم مدرسة أهل البيت (عليهم السلام) من خلال ماقام به الأئمة السابقون، وكذلك من خلال النشاطات العلميّة للإمام العسكري (عليه السلام)
إذ قام بإعداد ثلة من الرواة والتلاميذ، وما قام به من مراسلات ومحاورات وأجوبة على المسائل المختلفة، وما روى من أحاديث، وبث من علوم ومعارف، فقد نقلت عنه (عليه السلام) ذلك كتب الأحاديث والتفسير، والمناظرة وعلم الكلام وغيرها، وهذا قبس من عِلمه (عليه السلام).
1- وقع لبهلول معه (عليه السلام) أنه رآه وهو صبي يبكي والصبيان يلعبون، فظن أنه يتحسر على ما في أيديهم، فقال: أَشتري لك ما تلعب به؟
فقال (عليه السلام): (يا قليل العقل ما للعب خُلقنا).
فقال له: فلماذا خُلقنا؟
قال(عليه السلام): (للعلم والعبادة).
فقال له: من أين لك ذلك؟
قال (عليه السلام): (من قوله تعالى: (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ)[1]، ثم سأله أن يعظه فوعظه بأبيات فأنشأ يقول:
أرى الدنيا تجــهز بانطلاق مشمّرة على قدم وساق
فلا الدنــيا بباقيـــــة لحيٍّ ولا حيّ على الدنيا بباق
كأن المــوت والحدَثان فيها إلى نفس الفتى فرسا سباق
فيا مغـرور بالدنيا رويــداً ومنها خذ لنفسك بالوثاق
ثم رمق إلى السماء بعينيه وأشار بكفّيه ودموعه تتحدّر على خدّيه وأشار بقوله:
يا من اليه المبتهل، يا من عليه المتكل، يا من إذا ما آملٌ يرجوه لم يخط الأمل.
قال: فلما أتم كلامه خر الإمام الحسن(عليه السلام) مغشياً عليه، فلما أفاق، قال له: ما نزل بك وأنت صغير لا ذنب لك؟ فقال(عليه السلام): (إليك عني يا بهلول، إني رأيت والدتي توقد النار بالحطب الكبار فلا تتقد إلا بالصغار، وإني أخشى أن أكون من صغار حطب جهنم)[2].
2- عن إسحاق بن مُحمّد النّخعي قال: سأل الفهفكي أبا مُحمّد (عليه السلام): ما بال المرأة المسكينة الضّعيفة تأخذ سهماً واحداً ويأخذ الرّجل سهمين؟ فقال أبو مُحمّد (عليه السلام): إنّ المرأة ليس عليها جهاد ولا نفقة ولا عليها معقلة، إنّما ذلك على الرّجال، فقلت في نفسي: قد كان قيل لي: إنّ ابن أبي العوجاء سأل أبا عبد الله (عليه السلام)
عن هذه المسألة فأجابه بهذا الجواب، فأقبل أبو مُحمّد (عليه السلام) عليّ، فقال: نعم، هذه المسألة مسألة ابن أبي العوجاء، والجواب منّا واحد إذا كان معنى المسألة واحداً، جرى لآخرنا ما جرى لأوّلنا، وأوّلنا وآخرنا في العلم سواء، ولرسول الله (صلى الله عليه وآله) وأمير المؤمنين (عليه السلام) فضلهما[3].
3- قال الحسن بن ظريف: كتبت إلى أبي مُحمّد(عليه السلام) أسأله: ما معنى قول رسول الله (صلى الله عليه وآله) لأمير المؤمنين (عليه السلام): مَن كنتُ مولاه فهذا عليّ مولاه؟ قال (عليه السلام): أراد بذلك أن يجعله عَلماً يعرف به حزب الله عند الفُرقة[4].
4- قال داود بن القاسم الجعفري: سالت أبا مُحمّد عن قول الله عزّ وجلّ: (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ الله...) .
قال: كُلّهم من آل مُحمّد، الظّالم لنفسه الذي لا يقرّ بالإمام، قال: فدمعت عيني وجعلت أفكّر في نفسي في عظم ما أعطى الله آل مُحمّد على مُحمّد وآله السّلام، فنظر إليّ أبو مُحمّد فقال: الأمر أعظم ممّا حدّثتك نفسك من عظم شأن آل مُحمّد، فأحمد الله، فقد جُعلتَ متمسّكاً بحبلهم تُدعى يوم القيامة بهم إذا دُعي كلّ أُناس بإمامهم، فأبشر يا أبا هاشم فإنّك على خير[5].
5- أذهل الإمام (عليه السلام) بسعة علمه طبيب البلاط بختيشوع، وكان ألمع شخصية في عِلم الطّب في عصره، فقد احتاج الإمام (عليه السلام) إلى طبيب، فأرسل إليه بختيشوع بعض تلامذته وأوصاه قائلاً: (طلب منّي ابن الرّضا من يقصده، فصر إليه، وهو أعلم في يومنا هذا ممن هو تحت السّماء، فاحذر أن لا تعترض عليه فيما يأمرك به ...)[6].
6- قال أبو القاسم الكوفي في كتاب التبديل: إن إسحاق الكندي كان فيلسوف العراق في زمانه أخذ في تأليف تناقض القرآن وشغل نفسه بذلك وتفرد به في منزله، وإن بعض تلامذته دخل يوماً على الإمام الحسن العسكري فقال له أبو محمد (عليه السلام): أما فيكم رجل رشيد يردع استاذكم الكندي عما أخذ فيه من تشاغله بالقرآن، فقال التلميذ: نحن من تلامذته كيف يجوز منا الاعتراض عليه في هذا أو في غيره؟ فقال له أبو محمد (عليه السلام): أتؤدي إليه ما ألقيه إليك؟ قال: نعم، قال: فصر إليه وتلطف في مؤانسته ومعونته على ما هو بسبيله فإذا وقعت المؤانسة في ذلك فقل: قد حضرتني مسأله أسألك عنها، فإنه يستدعي ذلك منك، فقل له: إن أتاك هذا المتكلم بهذا القرآن هل يجوز أن يكون مراده بما تكلم منه غير المعاني التي قد ظننتَها أنك ذهبت إليها؟ فإنه سيقول لك: إنه من الجائز، لأنه رجل يفهم إذا سمع، فإذا أوجب ذلك فقل له: فما يدريك لعله قد أراد غير الذي ذهبت أنت إليه فيكون واضعاً لغير معانيه.
فصار الرجل إلى الكندي وتلطف إلى أن ألقى عليه هذه المسألة فقال له: أَعِد عليَّ، فأعاد عليه فتفكر في نفسه ورأى ذلك محتملا في اللغة وسائغا في النظر فقال: أقسمت عليك إلا أخبرتني من أين لك؟ فقال: إنه شئ عرض بقلبي فأوردته عليك، فقال كلا ما مثلك من اهتدى إلى هذا ولا من بلغ هذه المنزلة، فعرفني من أين لك هذا ؟ فقال: أمرني به أبو محمد فقال: الآن جئت به وما كان ليخرج مثل هذا إلا من ذلك البيت، ثم إنه دعا بالنار وأحرق جميع ما كان ألّفه[7].
عطاؤه العلمي (عليه السلام):
على الرغم من إقصاء الإمام العسكري (عليه السلام) عن موقعه الريادي والقيادي، فقد استطاع أن ينهض بمهمته الرسالية، فكان له رصيد علمي وعطاء معرفي واسع، حيث واصل نشاط مدرسة آبائه المعصومين (عليهم السلام) من حيث المنهج والمصدر والمادة، ومهّد لمدرسة الفقهاء والمحدثين من أصحابه التي سارت على خطاها، فكان له دورٌ بارزٌ في رفد تلك المدرسة بالمادة العلمية اللازمة على مختلف الأصعدة، سيما في مجال ترسيخ أصول الاعتقاد، وإيصال سنن جده المصطفى (صلى الله عليه وآله) إلى الأمة في أحلك الظروف وأقساها، وقد نسبت إليه بعض الآثار في هذا الاتجاه، كما أعدّ جيلاً من الأصحاب الثقات الذين رفدوا المدرسة الشيعية بمصادر يستقى منها العلم ومناهل تؤخذ منها المعرفة، وكان بعضها يعرض عليه لينال تصحيحه وتوثيقه، وتصدى الإمام (عليه السلام) لبعض الدعوات المنحرفة والشبهات الباطلة التي تشكل موطن خطرٍ على الرسالة وبيّن زيفها وبطلانها، فأسهم في إنقاذ الاُمة من حالة التعثّر في مهاوي الضلال والانحراف. وفيما يلي نقف عند بعض تلك العطاءات.