لقد دوهم بيت الإمام (عليه السلام) ليلاً من قبل شراذم السلطة في مدينة سامراء، وتمّ تفتيشه فلم يجدوا فيه شيئاً يحسبونه وثيقة إدانة له، بل وجدوا الإمام (عليه السلام) جالساً على الحصى والرمل، وهو متّجه صوب القبلة إلى الله جلّ وعزّ، وكان يتلو آياتٍ من القرآن الكريم، فحملوه على حالته هذه إلى المتوكّل العبّاسي ـ وهو أطغى سلاطين عصره ـ وأدخلوه عليه بحالته تلك، وكان الطاغية المتوكّل في مجلس شراب ولهو، وكان بيده كأس الخمر، فناوله إلى الإمام (عليه السلام)، فامتنع(عليه السلام)
منه وقال: (والله ما يخامر لحمي ودمي قطّ، فاعفني)، فأعفاه فقال: أنشدني شعراً، فقال (عليه السلام): (أنا قليل الرواية للشعر)، فقال المتوكّل: لابدّ، فأنشده
الإمام (عليه السلام):
باتوا على قلل الأجبال تحرسهم غلبُ الرجال فما أغنتهم القلل
واستنزلوا بعد عزّ من معاقلـهم وأُسكنوا حفراً يا بئس ما نزلوا
ناداهم صارخ من بعد دفـــنهم أين الأساور والتيجان والحلل
أين الوجوه التي كانت منعّــمة من دونها تُضربُ الأستار والكلل
فأفصح القبر عنهم حين ساءلهم تلك الوجوه عليها الدود يقتتل
قد طالما أكلوا دهراً وما شــربوا فأصبحوا بعد طول الأكل قد أُكلوا
فبكى المتوكّل حتّى بُلّت لحيته، كما بكى الحاضرون، ثمّ ردّه إلى منزله
مكرّماً [1].
مرحلة الانفراج:
وقُتل المتوكَّل على يد ولده المنتصر، قتل الطاغية واستراح الناس لفترة ـ خصوصاً أتباع أهل البيت(عليهم السلام) ـ وعاد الناس إلى زيارة مراقد أهل البيت (عليهم السلام) وردت (فدك) إلى أولاد فاطمة الزهراء(عليها السلام)، وفرّج عن السجناء، ولكن الفرحة لم تدم طويلاً، فما أسرع أن تآمر الأتراك على المنتصر فمات مسموماً، ثم جاء المستعين عمّه، ولم تطل أيامه، إذ كانت السلطة قد أصبحت ألعوبة بيد الجيش التركي.
مرة أخرى تآمر الأتراك على المستعين وجاءوا بابن المتوكل محمد الملقب بالمعتزّ ورغم أن الأخير لم يكن كوالده في القسوة والطغيان إلا أنّه أغلق أبواب الانفراج على شيعة أهل البيت(عليهم السلام)، وقرّر أن يقتل الإمام الهادي(عليه السلام) بالسم، ونفّذ المعتز خطته.
وقضى على النجمة العاشرة من نجوم الهداية الربانية، ولكن بعد أن بقيت تشع على مسيرة الأمة الإسلامية لمدة ثلاث وثلاثين عاماً هي مدة إمامته المباركة على المسلمين.