قال سبط ابن الجوزي: قال علماء السير: وإنّما أشخصه المتوكِّل من مدينة رسول الله (صلى الله عليه وآله) إلى بغداد لأنّ المتوكِّل كان يبغض عليّاً وذريته(عليهم السلام) فبلغه مقام عليّ الهادي(عليه السلام) بالمدينة، وميل الناس إليه فخاف منه فدعا يحيى بن هرثمة، وقال: اذهب إلى المدينة وانظر في حاله وأشخصه إلينا، قال يحيى: فذهبت إلى المدينة فلما دخلتها ضجّ أهلها ضجيجاً عظيماً ما سمع الناس بمثله خوفاً على عليّ (عليه السلام) وقامت الدنيا على ساق، لأنّه كان محسناً إليهم ملازماً للمسجد لم يكن عنده ميل إلى الدنيا، قال يحيى: فجعلت أسكّنهم وأحلف لهم أني لم أُومر فيه بمكروه، وأنه لا بأس عليه، ثم فتّشت منزله فلم أجد فيه إلاّ مصاحف وأدعية وكتب العلم، فعظم في عيني وتوليت خدمته بنفسي، وأحسنت عشرته، فلما قدمت به بغداد بدأت بإسحاق بن إبراهيم الطاهري - وكان والياً على بغداد - فقال لي: يا يحيى إن هذا الرجل قد ولده رسول الله (صلى الله عليه وآله)، والمتوكِّل من تعلم، فإن حرّضته عليه قتله وكان رسول الله (صلى الله عليه وآله) خصمك يوم القيامة، فقلت له: والله ما وقعت منه إلاّ على كل أمر جميل.
ثم صرت به إلى سر من رأى فبدأت بوصيف التركي فأخبرته بوصوله فقال: والله لئن سقط منه شعرة لا يُطالب بها سواك، قال: فعجبت كيف وافق قوله قول إسحاق، فلما دخلت على المتوكّل سألني عنه فأخبرته بحسن سيرته وسلامة طريقته وورعه وزهادته، وأني فتشت داره فلم أجد فيها غير المصاحف وكتب العلم وأن أهل المدينة خافوا عليه، فأكرمه المتوكل وأحسن جائزته وأجزل برّه وأنزله معه سر من رأى [1].
وقال ابن الصباغ المالكي: (وحُكي أنّ سبب شخوص أبي الحسن عليّ بن محمّد من المدينة إلى سُرّ مَن رأى أنّ عبد الله بن محمّد كان ينوب عن الخليفة المتوكّل الحرب والصلاة بالمدينة الشريفة فسعى بأبي الحسن إلى المتوكّل وكان يقصده بالأذى، فبلغ أبو الحسن سعايته به، فكتب إلى المتوكّل يَذكُرُ تحامل عبد الله بن محمّد ويكذّبه فيما سعى عليه وقصده له بالأذى، فتقدّم المتوكّل بالكتابة إليه وأجابه عن كتابه وجعل يعتذر إليه فيه ويلين له القول، ودعاه فيه إلى الحضور إليه على جميل من القول والفعل، وكانت صورة الكتاب الّذي كتبه إليه المتوكَّل: بسم الله الرحمن الرحيم، أمّا بعد، إنّ أمير المؤمنين عارف بقدرك راع لقرابتك موجب لحقّك مؤثر من الأُمور فيك وفي أهل بيتك لما فيه إصلاح حالك وحالهم ويثبت عزّك وعزّهم وإدخال الأمن عليك وعليهم يبتغي ذلك رضاء ربّه وأداء ما افترضه عليه فيك وفيهم، وقد رأى أمير المؤمنين صرف عبد الله بن محمّد عمّا كان يتولاّه من الحرب والصلاة بمدينة الرسول (صلى الله عليه وآله) إذ كان على ما ذكرت من جهالته بحقّك واستخفافه بقدرك وعند ما قَرَفَكَ به ونسبك إليه من الأمر وما رماك به وعزاك إليه من الأمر الّذي قد علم أمير المؤمنين براءتك منه ولمّا تبيّن له من صدق نيتك وحسن طويتك وسلامة صدرك وأنك لم تؤهّل نفسك بشيء ممّا ذكره عنك وقد ولّى أمير المؤمنين ممّا كان يليه عبد الله بن محمّد من الحرب والصلاة بمدينة الرسول(صلى الله عليه وآله) لمحمّد بن فضل، وأمره بإكرامك واحترامك وتوقيرك وتبجيلك والانتهاء إلى أمرك ورأيك وعدم مخالفتك والتقرّب إلى الله تعالى وإلى أمير المؤمنين بذلك وأمير المؤمنين مشتاق إليك ويحبّ إحداث العهد بقربك واليمن بالنظر إلى ميمون طلعتك المباركة، فإن نشطت لزيارته والمُقام قِبَلَه وفي جهته ما أحببت أحضرت أنت ومن اخترته من أهل بيتك ومواليك وحشمك وخدمك على مهلة وطمأنينة، ترحل إذا شئت وتسير كيف شئت، وإن أحببت وحسن رأيك أن يكون يحيى بن هرثمة بن أعين مولى أمير المؤمنين في خدمتك ومَن معه من الجند يرحلون لرحيلك وينزلون لنزولك فالأمر إليك في ذلك، وقد كتبت إليه في طاعتك وجميع ما تحبّ، فاستخر الله تعالى، فما أحد عند أمير المؤمنين من أهل بيته وولده وخاصّته ألطف منزلةً ولا أحمد أثرةً ولا هو انظر إليهم أبرَّ بهم وأشفق عليهم وأسكن إليهم منك إليه، والسّلام عليك ورحمة الله وبركاته. وكتب إبراهيم بن العباس في شهر كذا سنة ثلاث وأربعين ومائتين من الهجرة.
فلمّا وصل الكتاب إلى أبي الحسن(عليه السلام) تجهّز للرحيل وخرج معه يحيى بن هرثمة مولى المتوكل ومَن معه من الجند حافّين به إلى أن وصل إلى سرّ من رأى، فلمّا وصل إليها تقدّم المتوكّل بأن يُحْجب عنه في يومه، فنزل في خان يعرف بخان الصعاليك وأقام فيه يومه، ثمّ إنّ المتوكّل أفرد له داراً حسنةً وأنزله أيّاماً، فأقام أبو الحسن مدّة مقامه بسرّ من رأى مكرّماً معظّماً مبجّلاً في ظاهر الحال، والمتوكّل يبتغي له الغوائل في باطن الأمر فلم يقدره الله تعالى عليه[2] .