هناك الكثير من الأخبار التي تدلّ على أن الإمام الهادي (عليه السلام) كان يتابع ما يجري على الساحة الفكرية، فيلاحق الأفكار المنحرفة والشبهات التي تطرح هنا وهناك في مواجهة الفكر الإسلامي الأصيل.
فتصدّى الإمام الهادي (عليه السلام) لبعض الاتجاهات العقائدية المنحرفة والفرق الضالة ومنهم الغُلاة الذين كانوا في زمانه، وهم الذين خرجوا عن الجادة ووصفوا الأئمّة(عليهم السلام) بصفات الإلوهية، فتبرأ أهل البيت(عليهم السلام) منهم ولعنوهم وحاربوا مقالاتهم الباطلة.
الغلاة:
حركة الغُلو من المعاول الهدامة التي تشكّل خطورة بالغة على الفكر الإسلامي، لذلك اتخذ الأئمّة الأطهار من أهل البيت(عليهم السلام) وشيعتهم مواقف شديدة من الغُلوّ والغُلاة، فأعلنوا عن كفرهم وإلحادهم والبراءة منهم، لحرصهم على تنزيه تعاليم الإسلام من التشويه والتحريف والافتراء، ولتصحيح المسار الإسلامي بكل ما حوى من علوم ومعارف واتجاهات، ولم يدخروا في هذا السبيل وسعاً.
وظهر في زمان إمامة الهادي(عليه السلام) بعض المفترين من أمثال القاسم بن يقطين، وعلي بن حسكة، والحسن بن محمد بن بابا القمي، ومحمد بن نصير الفهري النميري، وفارس بن حاتم بن ماهويه القزويني.
وعانى الإمام الهادي (عليه السلام) من هؤلاء الغُلاة ومقالاتهم الباطلة، فقد ادعوا أن الإمام الهادي (عليه السلام) هو الرب الخالق والمدبر للكون، وأنه بعث ابن حسكة ومحمد بن نصير الفهري وابن بابا وغيرهم أنبياء يدعون الناس إليه ويهدونهم، ووضع هؤلاء بعض الأحاديث على لسان الأئمّة(عليهم السلام) وهي تزخر بأنواع البدع التي منها ادعاؤهم أن الصلاة والزكاة والصيام وسائر الفرائض جميعها رجل، فاستهتروا بسائر السنن الإلهية، وأسقطوا الفرائض عمن دان بمذهبهم، بل أباحوا كل ما حرّمه الإسلام ونهى عنه كنكاح المحارم واللواط وقالوا بالتناسخ وما إلى ذلك من المحرمات، وكان هدفهم الأساس هو الإجهاز على الإسلام والطمع بأموال الناس وأخذها بالباطل والاستحواذ على الحقوق والوجوه الشرعية التي تحمل إلى الإمام (عليه السلام).
وانطلاقاً من المسؤولية الشرعية والعلمية المناطة بالإمام (عليه السلام)، فقد سعى إلى الحفاظ على الخط الرسالي الذي دافع عنه آباؤه الأئمّة(عليهم السلام)، وتصدى الإمام (عليه السلام) ومن ورائه أصحابه لهذه الحركة الهدامة، ووقفوا لجميع رموزها بالمرصاد، على الرغم مما تعرض له في حياته من ظلم الحكام واضطهادهم.
وفيما يلى نستعرض مواقفه (عليه السلام) من الغُلاة على ضوء الأخبار الواردة في هذا المضمار.
لعنهم والبراءة منهم:
عن سهل بن محمد أنه كتب إليه(عليه السلام): قد اشتبه يا سيدي على جماعة من مواليك أمر الحسن بن محمد بن بابا، فما الذي تأمرنا يا سيدي في أمره نتولاه أم نتبرأ منه، أم نمسك عنه، فقد كثر القول فيه؟
فكتب بخطه وقرأته: (ملعون هو وفارس، تبرأوا منهما، لعنهما الله، ضاعف ذلك على فارس)[1] .
وعن محمد بن عيسى، قال: كتب إلي أبو الحسن العسكري(عليه السلام) ابتداءً منه: (لعن الله القاسم اليقطيني، ولعن الله علي ابن حسكة القمي، إن شيطاناً يتراءى للقاسم فيوحي إليه زخرف القول غروراً)[2].
وعن عبد الله بن جعفر الحميري، قال: كتب أبو الحسن العسكري (عليه السلام) إلى علي بن عمرو القزويني بخطه: (اعتقد فيما تدين الله به أن الباطن عندي حسب ما أظهرت لك فيمن استنبأت عنه، وهو فارس لعنه الله، فإنه ليس يسعك إلا الاجتهاد في لعنه وقصده ومعاداته، والمبالغة في ذلك بأكثر ما تجد السبيل إليه، ما كنت آمر أن يدان الله بأمر غير صحيح، فجد وشد في لعنه وهتكه وقطع أسبابه، وصد أصحابنا عنه، وإبطال أمره، وأبلغهم ذلك مني، واحكه لهم عني، وإني سائلكم بين يدي الله عن هذا الأمر المؤكد، فويل للعاصي وللجاحد. وكتبت بخطي ليلة الثلاثاء لتسع ليال من شهر ربيع الأول سنة٢٥٠ هـ، وأنا أتوكل على الله وأحمده كثيراً)[3].
مقاطعتهم والاستخفاف بهم:
عن إبراهيم بن داود اليعقوبي، قال: كتبت إليه - يعني أبا الحسن (عليه السلام) - أعلمه أمر فارس بن حاتم، فكتب (عليه السلام): (لا تحفلن به، وإن أتاك فاستخف به)[4] .
وعن إبراهيم بن محمد أنه قال: كتبت إليه (عليه السلام): جعلت فداك، قبلنا أشياء تحكى عن فارس، والخلاف بينه وبين علي بن جعفر، حتى صار يبرأ بعضهم من بعض، فإن رأيت أن تمُنَّ عليَّ بما عندك فيهما، وأيهما يتولى حوائجي قِبَلك حتى لا أعدوه إلى غيره، فقد احتجت إلى ذلك، فعلت متفضلاً إن شاء الله؟ فكتب (عليه السلام):
(ليس عن مثل هذا يُسأل، ولا في مثله يُشك، قد عظم الله قدر علي بن جعفر ـ متعنا الله تعالى به ـ من أن يقايس إليه، فاقصد علي بن جعفر بحوائجك، واخشوا فارساً وامتنعوا من إدخاله في شيء من أموركم، تفعل ذلك أنت ومن أطاعك من أهل بلادك، فإنه قد بلغني ما يموه به على الناس، فلا تلتفتوا إليه إن شاء الله)[5] .
تكذيب مقالاتهم الباطلة:
عن موسى بن جعفر بن وهب، قال: كتب عروة إلى أبي الحسن (عليه السلام) في أمر فارس بن حاتم، فكتب (عليه السلام): (كذبوه واهتكوه، أبعده الله وأخزاه، فهو كاذب في جميع ما يدعي ويصف، ولكن صونوا أنفسكم عن الخوض والكلام في ذلك، وتوقوا مشاورته، ولا تجعلوا له السبيل إلى طلب الشر، فكفانا الله مؤونته ومؤونة من كان مثله)[6] .
وقال سعد: حدثني العبيدي، قال: كتب إليّ العسكري (عليه السلام) ابتداء منه: (أبرأ إلى الله من الفهري، والحسن بن محمد بن بابا القمي، فابرأ منهما، فإني محذرك وجميع موالي، وإني ألعنهما، عليهما لعنة الله، مستأكلين يأكلان بنا الناس فتّانين مؤذيين، آذاهما الله، أرسلهما في اللعنة وأركسهما في الفتنة ركسا، يزعم ابن بابا: أني بعثته نبيا، وأنه باب، عليه لعنة الله، سخر منه الشيطان فأغواه، فلعن الله من قبل منه ذلك، يا محمد إن قدرت أن تخدش رأسه بالحجر فافعل، فإنه قد آذاني آذاه الله في الدنيا والآخرة)[7] .
تحذيره(عليه السلام) من مجالسة الصوفيين:
وحذّر الإمام الهادي(عليه السلام) أصحابه وسائر المسلمين من الاتصال بالصوفيين والاختلاط بهم لأنهم مصدر غواية وضلال للناس، فهم يظهرون التقشّف والزهد لإغراء البسطاء والسذّج وغوايتهم، وإن زهدهم لم يكن حقيقياً وإنما لإراحة أبدانهم، وأن تهجدهم في الليل لم يكن نسكاً وإخلاصاً في طاعة الله تعالى، وإنما هو وسيلة لصيد أموال الناس وإغوائهم، وأن أورادهم ليست عبادة خالصة لله بل هي رقص وغناء، وأن أتباعهم هم الحمقى والسفهاء.
فلقد شدّد الإمام الهادي (عليه السلام) في التحذير من الاختلاط بهم حتى روى الحسين بن أبي الخطاب قال: كنت مع أبي الحسن الهادي (عليه السلام) في مسجد النبيّ (صلى الله عليه وآله)
فأتاه جماعة من أصحابه منهم أبو هاشم الجعفري، وكان بليغاً وله منزلة مرموقة عند الإمام (عليه السلام) وبينما نحن وقوف إذ دخل جماعة من الصوفية المسجد فجلسوا في جانب منه، وأخذوا بالتهليل، فالتفت الإمام (عليه السلام) إلى أصحابه فقال لهم:
(لا تلتفتوا إلى هؤلاء الخدّاعين فإنّهم حلفاء الشياطين، ومخرّبو قواعد الدين، يتزهّدون لإراحة الأجسام، ويتهجّدون لصيد الأنعام، يتجرّعون عُمُراً حتى يديخوا للإيكاف حُمُراً[8]، لا يهللون إلاّ لغرور الناس، ولا يقلّلون الغذاء إلاّ لملأ العساس[9] واختلاس قلب الدفناس[10]، يكلّمون الناس بإملائهم في الحبّ، ويطرحونهم بإذلالهم في الجب، أورادهم الرقص والتصدية، وأذكارهم الترنّم والتغنية، فلا يتبعهم إلاّ السفهاء، ولا يعتقد بهم إلاّ الحمقاء، فمن ذهب إلى زيارة أحدهم حياً أو ميتاً، فكأنّما ذهب إلى زيارة الشيطان وعبادة الأوثان، ومن أعان واحداً منهم فكـأنّما أعان معاوية ويزيد وأبا سفيان).
فقال أحد أصحابه: وإن كان معترفاً بحقوقكم؟
فزجره الإمام (عليه السلام) وصاح به قائلاً: (دع ذا عنك، من اعترف بحقوقنا لم يذهب في عقوقنا، أما تدري أنّهم أخسّ طوائف الصوفية، والصوفية كلهم مخالفونا، وطريقتهم مغايرة لطريقتنا، وإن هم إلاّ نصارى أو مجوس هذه الاُمة، أُولئك الذين يجتهدون في إطفاء نور الله بأفواههم، والله متمّ نوره ولو كره الكافرون)[11].
[1] رجال الكشي للشيخ الطوسي: ج2، ص518.
[2] رجال الكشي للشيخ الطوسي: ج2، ص804.
[3] الغَيبة للشيخ الطوسي: ص228.
[4] معجم رجال الحديث للسيد الخوئي: ج14، ص258.
[5] رجال الكشي للشيخ الطوسي: ج2، ص807.
[6] رجال الكشي للشيخ الطوسي: ج 2ص806.
[7] معجم رجال الحديث للسيد الخوئي: ج6، ص122.
[8] إكاف الحمار: برذعته، واَكف الحمار إيكافا: شدّه عليه، القاموس المحيط: ج 3، ص 118 .
[9] العساس: جمع عس، الأقداح الضخمة.
[10] الدفناس: الأحمق أو البخيل، أو الكسلان،، تاج العروس: ج4، ص 152 .
[11] الإثنا عشرية للحر العاملي: ص29.