مكارم أخلاقه (عليه السلام)

لقد تحلّى الإمام الهادي(عليه السلام) بمكارم الأخلاق التي بعث جدّه الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) لتتميمها، واجتمعت في شخصيته كل عناصر الفضل والكمال التي لا يسعنا الإحاطة بها ولا تصويرها، ولكن هذا لا يمنع أن نشير إلى جملة من مكارم أخلاقه التي تجلّت في صور من سلوكه، وهو(عليه السلام) من أهل بيت عادتهم الإحسان وسجيّتهم الكرم والجود، وإليك بعض هذه المكارم التي نصّت عليها كتب السيرة والتاريخ.

كرمه (عليه السلام):

قال محمّد بن طلحة: خرج (عليه السلام) يوماً من سر من رأى إلى قرية لِمُهمٍّ عرَض له، فجاء رجل من الأعراب يطلبه، فقيل له: قد ذهب إلى الموضع الفلاني، فقصده، فلمّا وصل إليه قال له (عليه السلام): (ما حاجتك؟).

فقال: أنا رجل من أعراب الكوفة المتمسّكين بولاية جدّك علي بن أبي طالب (عليه السلام) قد ركبني دين فادح أثقلني حمله، ولم أرَ من أقصده لقضائه سواك.

فقال له (عليه السلام): (طب نفساً وقرَّ عيناً)، ثمّ أنزله، فلمّا أصبح ذلك اليوم، قال له (عليه السلام): (أريد منك حاجة، الله الله أن تخالفني فيها)، فقال الأعرابي: لا أخالفك، فكتب (عليه السلام) ورقة بخطّه معترفاً فيها أنّ عليه للأعرابي مالاً عينه فيها يرجح على دينه وقال (عليه السلام): (خذ هذا الخط، فإذا وصلت إلى سر من رأى إحضر إليّ وعندي جماعة، فطالبني به وأغلظ القول عليَّ في ترك إبقائك إيّاه، الله الله في مخالفتي).

فقال: أفعل، وأخذ الخط، فلمّا وصل(عليه السلام) إلى سر من رأى، وحضر عنده جماعة كثيرون من أصحاب الخليفة وغيرهم، حضر ذلك الرجل وأخرج الخط وطالبه، وقال كما أوصاه، فألان(عليه السلام) له القول ورفقه، وجعل يعتذر، ووعده بوفائه وطيبة نفسه، فنقل ذلك إلى المتوكّل، فأمر أن يحمل إلى الإمام(عليه السلام) ثلاثون ألف درهم، فلمّا حملت إليه تركها إلى أن جاء الرجل، فقال(عليه السلام): (خذ هذا المال واقض منه دينك، وأنفق الباقي على عيالك وأهلك، واعذرنا)، فقال له الأعرابي: يا ابن رسول الله (صلى الله عليه وآله)، والله إنّ أملي كان يقصر عن ثلث هذا، ولكن الله أعلم حيث يجعل رسالته، وأخذ المال وانصرف. [1]

ودخل أبو عمر عثمان بن سعيد وأحمد بن إسحاق الأشعري وعلي بن جعفر الهمداني على أبى الحسن العسكري (عليه السلام)، فشكا إليه أحمد بن إسحاق دينا عليه فقال (عليه السلام): (يا أبا عمرو - وكان وكيله - إدفع إليه ثلاثين ألف دينار وإلى علي بن جعفر ثلاثين ألف دينار وخذ أنت ثلاثين ألف دينار)[2].

وعن أبي هاشم الجعفري، قال: خرجت مع أبي الحسن (عليه السلام) إلى سر من رأى نتلقى بعض القادمين فأبطأوا، فطرح لأبي الحسن (عليه السلام) غاشية السرج فجلس عليها، فنزلت عن دابتي وجلست بين يديه وهو يحدثني، فشكوت إليه قصور يدي، فأهوى بيده إلى رمل كان عليه جالسا وناولني منه كفا وقال (عليه السلام): (اتسع بهذا يا أبا هاشم، واكتم ما رأيت) فجئت به معي، ورجعنا فأبصرته فإذا هو يتقد كالنيران ذهبا  أحمر، فدعوت صائغا  إلى منزلي، وقلت له: اسبك لي هذا فسبكه وقال  لي: ما رأيت ذهبا  أجود منه، وهو كهيئة الرمل، فمن أين لك هذا؟ فما رأيت أعجب منه ! قلت: هذا شئ كان عندنا قديما  تدخره لنا عجائزنا على طول الأيام.[3]

زهده (عليه السلام):

 الزهد والورع من المظاهر البارزة في سيرة الإمام الهادي(عليه السلام)، مثله في ذلك مثل آبائه المعصومين(عليهم السلام)، فكان (عليه السلام) مثالاً للزهد والإعراض عن زخارف الدنيا وحطامها، والرغبة فيما أعدّه الله له في دار الخلود من النعيم والكرامة.

ولم يحفل بمظاهر الحياة الفانية ونعيمها الزائل ومتعها الزائفة، بل اتجه إلى الله تعالى ورغب فيما أعدّه له في دار الخلود من النعيم والكرامة، وآثر طاعة الله تعالى على كل شيء.

لقد عزف الإمام الهادي (عليه السلام) عن جميع مباهج الحياة ومُتعها وعاش عيشة زاهدة إلى أقصى حدّ، لقد واظب على العبادة والورع والزهد، فلم يحفل بأي مظهر من مظاهر الحياة، وآثر طاعة الله على كل شيء، وقد كان منزله في المدينة وسرّ من رأى خالياً من كل أثاث، فقد داهمت منزله شرطة المتوكل ففتّشوه تفتيشاً دقيقاً فلم يجدوا فيه شيئاً من رغائب الحياة، وكذلك لما فتّشت الشرطة داره في سرّ من رأى، فقد وجدوا الإمام في بيت مغلق، وعليه مدرعة من شعر وهو جالس على الرمل والحصى، ليس بينه وبين الأرض فراش[4].  

ونقل ابن أبي الحديد عن المفاخرة بين بني هاشم وبني أمية للجاحظ، قال: وأين أنتم عن علي بن محمد الرضا، لابس الصوف طول عمره مع سعة أمواله وكثرة ضياعه وغلاته...)[5].

العمل في المزرعة:

وتجرّد الإمام العظيم (عليه السلام) من الأنانية، حتى ذكروا أنّه كان يعمل بيده في أرض له لإعاشة عياله، فقد روى عليّ بن حمزة حيث قال: رأيت أبا الحسن الثالث يعمل في أرض وقد استنقعت قدماه من العرق، فقلت له: جعلت فداك أين الرجال؟ فقال الإمام (عليه السلام): (يا علي قد عمل بالمسحاة من هو خير منّي ومن أبي في أرضه).

قلت: من هو؟ قال (عليه السلام): (رسول الله(صلى الله عليه وآله) وأمير المؤمنين(عليه السلام) وآبائي
كلّهم(عليهم السلام) عملوا بأيديهم، وهو من عمل النبيّين والمرسلين والأوصياء الصالحين)[6].

السماحة والحلم:

ضرب الإمام الهادي (عليه السلام) أمثلة واضحة في العفو والصفح عن المسيئين، ومقابلة الإساءة بالإحسان، والصبر على كيد الأعداء والمناوئين، ويكفي مثالاً على سعة حلمه موقفه من (بريحة) عامل المتوكل على المدينة الذي كان يقصد الإمام (عليه السلام) بالإساءة والوشاية والتهديد، ومع ذلك فإنه (عليه السلام) قابل ذلك بالعفو وكظم الغيظ.

ذكر المسعودي أن أبا الحسن (عليه السلام) حين توجه إلى العراق، وصار في بعض الطريق، قال له بريحة: قد علمت وقوفك على أني كنت السبب في حملك، وعليَّ حلف بأيمان مغلظة لئن شكوتني إلى أمير المؤمنين أو إلى أحد من خاصّته وأبنائه، لأجمرنّ عيون ضيعتك، ولأفعلنّ وأصنعنّ.

فالتفت إليه أبو الحسن(عليه السلام) فقال له: (إن أقرب عَرضي إياك على الله البارحة، وما كنت لأعرضنك عليه ثم لأشكونك إلى غيره من خلقه)، فانكبّ عليه بريحة وضرع إليه واستعفاه، فقال له(عليه السلام): (قد عفوت عنك)[7].

هكذا تجد بريحة لا يعبأ بشكوى الإمام (عليه السلام) إلى الله سبحانه، ويتهدده إذا هو اشتكى عند المتوكِّل، ورغم ذلك تجد الإمام(عليه السلام) يعفو عنه ويسامحه رغم دوره السيئ في الوشاية والافتراء على الإمام(عليه السلام)، وهذا هو خُلُق أهل البيت(عليهم السلام)
وسماحتهم لمن أساء إليهم.

تكريمه(عليه السلام) للعلماء:

وكان الإمام الهادي (عليه السلام) يكرم رجال الفكر والعلم ويحتفي بهم ويقدّمهم على بقية الناس، وكان من بين من كرّمهم أحد علماء الشيعة وفقهائهم، وكان قد بلغه عنه أنه حاجج ناصبياً فأفحمه وتغلّب عليه فسرّ الإمام (عليه السلام) بذلك، ووفد العالم على الإمام فقابله بحفاوة وتكريم، وكان مجلسه مكتظّـاً بالعلويين والعباسيين، فأجلسه الإمام (عليه السلام) على دست، وأقبل عليه يحدّثه، ويسأل عن حاله سؤالاً حفياً، وشقّ ذلك على حُضّار مجلسه من الهاشميين فالتفتوا إلى الإمام (عليه السلام)، وقالوا له: كيف تقدّمه على سادات بني هاشم؟

فقال لهم الإمام (عليه السلام): (إيّاكم أن تكونوا من الذين قال الله تعالى فيهم:
(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنْ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ)[8]، أترضون بكتاب الله عزّ وجلّ حكماً ؟)

فقالوا جميعاً: بلى يا ابن رسول الله(صلى الله عليه وآله).

وأخذ الإمام(عليه السلام) يقيم الدليل على ما ذهب إليه قائلاً:  أليس الله قال:
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انشُزُوا فَانشُزُوا يَرْفَع اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ..)[9]، فلم يرض للعالم المؤمن إلاّ أن يرفع على المؤمن غير العالم، كما لم يرض للمؤمن إلاّ أن يرفع على من ليس بمؤمن، أخبروني عنه قال تعالى: (يَرْفَع اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ) أو قال: يرفع الله الذين أُوتوا شرف النسب درجات؟! أَوَ ليس قال الله: (...هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ ؟...)[10].

فكيف تنكرون رفعي لهذا لمّا رفعه الله، إنّ كسر هذا لفلان الناصب بحجج الله التي علّمه إياها لأشرف من كل شرف في النسب)، فسكت الحاضرون، إلاّ أن بعض العبّاسيين انبرى قائلاً:

يا ابن رسول الله لقد شرّفت هذا علينا، وقصرتنا عمن ليس له نسب كنسبنا، وما زال منذ أول الإسلام يُقدَّم الأفضل في الشرف على من دونه.

وقد ردّ عليه الإمام (عليه السلام) بما يتناسب مع عقيدة هذا العباسي إمعانا في الحجة عليه، وهو يدل على ما كان يتمتع به الإمام(عليه السلام) من البراعة في فن المناظرة والجدل، قائلاً: (سبحان الله ! أليس العبّاس بايع أبا بكر وهو تيمي، والعباس هاشمي، أَوَ ليس عبد الله بن عباس كان يخدم عمر بن الخطاب، وهو هاشمي أبو الخلفاء،  وعمر عدوي، وما بال عمر أدخل البُعَداء من قريش في الشورى، ولم يدخل العباس؟! فإن كان رفعاً لمن ليس بهاشمي على هاشمي مُنكَراً، فأَنكِروا على العباس بيعتَه لأبي بكر وعلى عبد الله بن عباس بخدمته لعمر، فإن كان ذلك جائزاً فهذا جائز)[11].

 


[1]  كشف الغمة للإربلي: ج3، ص167.

[2]  مناقب آل أبي طالب ابن شهر آشوب: ج3، ص512.

[3]     الثاقب في المناقب لابن حمزة الطوسي:ص532.

[4] ينابيع المودة للقندوزي: ج3، ص 169 .

[5] شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ج15، ص273.

[6]  وسائل الشيعة للحر العاملي: ج17، ص39.

[7]  إثبات الوصية للمسعودي: ص233.

[8] سورة آل عمران: آية23.

[9]  سورة المجادلة:آية11.

[10]  سورة الزمر: آية 9.

[11] الاحتجاج للشيخ الطبرسي: ج2، ص260.