تحلّى أئمة أهل البيت(عليهم السلام) بصفات الكمال ومعالي الأخلاق التي ميُزت شخصياتهم العظيمة عن سائر مَن عاصرهم، في العبادة والعلم والحلم والزهد والكرم والشجاعة وغيرها من مظاهر العظمة، ذلك لأنّهم استوحوا من جدهم المصطفى(صلى الله عليه وآله) هَمَّه الرسالي وروحانيته وأخلاقه، وتجسدت فيهم شخصيته، فكانوا اختصارا لجميع عناصره الأخلاقية والروحية والإنسانية، وصاروا رمزا للفضيلة والمروءة وقدوةً صالحة للإنسانية.
ولقد أوتي الإمام الهادي (عليه السلام) كسائر آبائه الطاهرين(عليهم السلام) من الفضائل ومكارم الأخلاق مالم يؤتَ أحد من معاصريه، فلم يُرَ مثله في عبادته وتهجّده وطاعته لربه، فضلاً عن زهده وتقواه وحسن سيرته وعلمه الجم وحكمته وبلاغته.
قال الشاعر:
ولست أحصي مكرمات الهادي فإنها في العـــــــدّ كالأعداد [1]
من هنا نأتي إلى ذكر نبذة من معالي الفضيلة وعناصر العظمة والملكات القدسية والخصال الروحانية التي تحلى بها الإمام الهادي(عليه السلام) من العلم والعبادة والزهد والكرم والشجاعة وغيرها من مناقبه الفذّة وخصاله الفريدة التي ورثها عن آبائه المعصومين(عليهم السلام) وكما يلي:
علمه (عليه السلام):
إن أهم صفات الإمامة بعد ثبوت النص على الإمام، هي السبق في العلم والحكمة، لكونها ضرورة لازمة في الإمام لأجل أن يكون أهلاً لهذه المنزلة، وكفؤاً لهذه المسؤولية، وقطباً تلتف حوله الناس، وتطمئن إلى سبقه في العلم والحكمة والمعرفة، وقدرته الفائقة في مواجهة ما تبتلى به الاُمّة، فلا يحتاج إلى غيره ممن هم محتاجون إلى إمام يهديهم ويرشدهم، اذ لا يصح أن يلتف الناس حول رجل ويسلّمون إليه قيادهم، وهم يجدون من هو أعلم منه أو أرجح فهماً وحكمةً ومعرفةً في شؤون الدين والدنيا، وهذه الناحية تكاد تكون بديهية لازمت جميع الأنبياء والأوصياء بين أقوامهم، وهي أشد ما تكون بروزاً وظهوراً في حياة خاتم الأنبياء وأوصيائه(عليهم السلام)، وقد اعتبر المؤرخون وأصحاب السير الإمام الهادي(عليه السلام) عَلَماً بارزاً من أعلام عصره في العلم والمعرفة، وهنا نعرض لنبذة مما أثر عنه في هذا المجال:
حدُّ نصراني يُسلِم:
قُدِّمَ إلى المتوكِّل رجل نصراني فَجَر بامرأة مسلمة، فأراد أن يقيم عليه الحَدَّ فأسلم النصراني، فقال يحيى بن أكثَم: قد هدم إيمانُه شركَه وفعلَه، وقال بعضهم: يضرب ثلاثة حدود، وقال بعضهم: يفعل به كذا وكذا، فأمر المتوكِّل بالكتاب إلى الإمام الهادي(عليه السلام) وسؤاله عن ذلك.
فلمَّا قرأ الكتاب كتب(عليه السلام): (يضرب حتَّى يموت)، فأنكر يحيى وأنكر فقهاء العسكر ذلك، فقالوا: يا أمير المؤمنين، سَلْهُ عن ذلك، فإنَّه شيء لم ينطق به كتاب، ولم يجئ به سنة.
فكتب إليه: إن الفقهاء قد أنكروا هذا وقالوا: لم يجئ به سنة ولم ينطق به كتاب، فَبَيِّن لنا لِمَ أوجبت عليه الضرب حتَّى يموت؟!
فكتب الإمام (عليه السلام): (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، فَلمَّا رَأَوا بَأسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ * فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُم إِيْمَانُهُم لَمَّا رَأَوا بَأسَنَا)[2]، فأمر به المتوكَّل، فَضُرِب حتَّى مات[3].
حَدُّ المال الكثير كم يكون:
لمَّا سُمَّ المتوكِّل، نذر لله إن رزقه العافية أن يتصدّق بمال كثير، فلمَّا سَلِمَ وَعُوفِي سأل الفقهاء عن حَدِّ المال الكثير كم يكون؟ فاختلفوا عليه، فقال بعضهم: ألف درهم، وقال بعضهم: عشرة آلاف درهم، وقال بعضهم: مائة ألف درهم، فاشتبه عليه هذا، فقال له الحسن حاجبه: إن أتيتُك يا أمير المؤمنين من الخلق برجل يخبرك الصواب فما لي عندك؟ فقال المتوكِّل: إن أتيت بالحقّ فلك عشرة آلاف درهم، وإلا أضربك مائة مقرعة، قال الحاجب: قد رضيت، فأتى الإمام الهادي (عليه السلام) فسأله عن ذلك، فقال له الإمام (عليه السلام): قل له: (تَصدَّق بثمانين درهماً).
فرجع الحاجب إلى المتوكِّل فأخبره، فقال المتوكل: سَلْهُ مَا العِلَّة في ذلك؟ فأتى الحاجب الإمام (عليه السلام) فسأله، فقال الإمام (عليه السلام): إنَّ الله عزَّ وجل قال لنبيِّه (صلى الله عليه وآله):
(لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ فِي مَوَاطِن كَثِيرة)[4]، فعَدَدنا مواطن رسول الله (صلى الله عليه وآله) فَبَلَغَتْ ثمانين موطناً، فرجع الحاجب إلى المتوكل فأخبره، ففرح المتوكِّل وأعطاه عشرة آلاف درهم[5] .
مسألة ابن السكيت:
طلب المتوكَّل من يعقوب بن إسحاق المعروف بابن السكيت أن يسأل الإمام (عليه السلام) مسائل غامضة معقدة، لعله لا يهتدي لجوابها، فيتخذها وسيلة للتشهير به، ولكن جواب الإمام كان سريعا ومُفحما، ومسقطاً لما في يد المتوكَّل، ومفوتاً الفرصة عليه، ومعرباً عن طاقاته العلمية الهائلة.
قال ابن شهر آشوب: (قال المتوكِّل لابن السكيت: اسأل ابن الرضا مسألة عوصاء بحضرتي، فسأله فقال: لِم بعث الله موسى(عليه السلام) بالعصا، وبعث عيسى(عليه السلام) بإبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى، وبعث محمداً(صلى الله عليه وآله) بالقرآن والسيف؟
فقال أبو الحسن(عليه السلام): (بعث الله موسى(عليه السلام) بالعصا واليد البيضاء في زمانٍ الغالب على أهله السحر، فأتاهم من ذلك ما قهر سحرهم وبهرهم وأثبت الحجة عليهم، وبعث عيسى(عليه السلام) بإبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى بإذن الله في زمانٍ الغالب على أهله الطب، فأتاهم من إبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى بإذن الله فقهرهم وبهرهم، وبعث محمداً (صلى الله عليه وآله) بالقرآن والسيف في زمان الغالب على أهله السيف والشعر، فأتاهم من القرآن الزاهر والسيف القاهر ما بهر به شِعرهم وقهر سيفهم وأثبت الحجة عليهم).
فقال ابن السكيت: فما الحجة الآن؟ قال (عليه السلام): (العقل، يعرف به الكاذب على الله فيكذب)[6].
اجوبتهُ (عليه السلام) لِيَحيَى بنِ اكثَمَ عَنْ مَسائلهِ:
قالَ موسى بن محمد الجواد(عليه السلام): لَقيت يحيى بنَ اكثَمَ في دار العامَّة، فسألني عن مسائلَ، فجئتُ إلى أخي عليّ بن مُحمد (عليهما السلام) فدارَ بيني وبينهُ من المواعظِ ما حَمَلَني وبَصَّرني طاعتهُ، فقلتُ له: جُعلت فداك إنَّ ابنَ اكثمَ كتبَ يسالُني عنْ مسائلَ، لِأفتيه فيها، فضَحِكَ ثُمَّ قال(عليه السلام): فهل أفتيتهُ؟ قُلْتُ: لا، لمْ اَعرفها، قال(عليه السلام): وما هيَ؟
قُلْتُ: كتبَ يسالُني عنْ قَولِ الله: (قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنْ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ)[7] نبيُ اللهِ كان محتاجاً إلى عِلْمِ آصفَ؟
وعنْ قولِهِ: (وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً..)[8] سجدَ يعقوب وَوِلْدَهُ لِيوسفَ وهم انبياء؟
وعن قوله: (فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلْ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ..)[9] مَنِ المُخاطَبُ بالآية؟ فإنْ كان المُخاطبُ النبيَّ (صلى الله عليه وآله) فقد شكَّ، وإن كان المخاطَبُ غيرَهُ فعلى منْ اذاً اُنزلَ الكتاب؟
وعن قولهِ: (وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ..)[10] ما هذه الأبحرُ واين هيَ؟
وعن قولهِ: (وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأَنفُسُ وَتَلَذُّ الأَعْيُنُ..)[11]، فاشتهت نفْسُ آدم (عليه السلام) أكل البُرِّ فأكلَ وأطعمَ فكيف عُوقبَ؟
وعنْ قولِهِ: (أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَاناً وَإِنَاثاً..)[12] يُزوِّجُ اللهُ عِبادهُ الذُّكرانَ وقد عاقب قوماً فعلوا ذلكَ؟
وعنْ شهادةِ المرأةِ جازت وحدها وقد قال اللهُ: (وَأَشْهِدُوا ذَوَى عَدْلٍ مِنْكُمْ..)[13].
وعنِ الخنثى وقوْلِ عليّ (عليه السلام): يورَثُ مِنَ المبالِ، فَمَنْ ينظرْ إذا بالَ إليهِ؟ معَ اَنَّهُ عسى اَنْ يكون اِمرأةً وقد نظرَ اليها الرِّجالُ، اَوْ عسى اَنْ يكونَ رَجلاً وقَدْ نَظرتْ إليهِ النِّساءُ، وهذا ما لا يحلُّ، وشهادةُ الجارِ إلى نفْسِهِ لا تُقبَلْ؟
وعنْ رَجُلٍ اَتى إلى قطيع غنَمٍ فرأى الرّاعيَ يَنزو على شاةٍ منها فلَمَّا بَصُرَ بصاحبها خَلَّى سبيلها، فدخلتْ بين الغنمِ كيف تُذبَحُ وهل يجوزُ أكلُها اَمْ لا ؟
وعنْ صلاةِ الفجرِ لِمَ يُجْهَرُ فيها بالقراءةِ وهيَ مِنْ صلاةِ النهار وإنَّما يُجهَرُ في صلاةِ اللّيلِ؟
وعنْ قوْلِ عليّ (عليه السلام) لابنِ جُرمُوزٍ: بَشِّرْ قاتل ابن صفِيَّةَ بالنّارِ، فَلمْ يقتُلْهُ وهوَ إمامٌ؟
واَخبِرْني عَنْ عليّ(عليه السلام) لِمَ قتلَ اَهلَ صفّينَ واَمرَ بذلك مُقبلينَ ومدبرينَ واَجازَ[14] على الجرحى، وكان حُكْمُهُ يَومَ الجملِ اَنَّهُ لمْ يقتلْ مُوَلِّياَ ولم يُجزِ على جريحٍ ولَمْ ياَمرْ بذلك، وقالَ: مَنْ دخلَ دارهُ فهوَ آمنٌ، ومَنْ اَلقى سلاحهُ فهوَ آمنٌ، لِمَ فَعَلَ ذلكَ؟ فإنْ كانَ الحُكْمُ الاَولُ صَواباً فالثاني خطأٌ.
واَخبرني عن رَجُلٍ اَقَرَّ باللواطِ على نفسهِ أٌَيُحَدُّ، أٌَم يُدْرَءُ عنهُ الحَدَّ؟
قالَ (عليه السلام): اُكتبْ اليهِ، قُلْتُ: وما أكتبُ؟
قال (عليه السلام): اُكتبْ: (بسم الله الرَّحمان الرحيم - وَاَنتَ فاَلهمك الله الرُشْدَ - اَتاني كِتابُكَ فامتحنتنا بهِ مِنْ تعنتكَ لِتَجِدَ إلى الطعن سبيلاً إنْ قَصُرنا فيها، والله يُكافيك على نيتك، وقد شرحنا مسائلكَ فَاَصغِ إليها سَمْعَكَ، وَ ذَلّل لها فَهْمَكَ، واَشغِلْ بها قلبك، فقد لَزِمَتْكَ الحُجَّةُ، والسلام).
1- سألْتَ عَنْ قولِ اللهِ جَلّ وَعزَّ: (قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنْ الْكِتَابِ..) فَهوَ آصفُ بنُ بَرْخِيا ولَمْ يَعْجَزْ سُليمان(عليه السلام) عَنْ معرفةِ ما عَرَفَ آصِفُ لكنَّهُ - صلواتُ الله عليه - أحَبَّ أنْ يُعَرِّفَ أُمَّتهُ منَ الجنِّ والإنسِ أَنَّهُ الحجّة مِنْ بَعْدِه، وذلك مِنْ عِلْمِ سُليمان(عليه السلام) أوْدَعَهُ عِنْدَ آصِفَ بِأمْرِ اللهِ، ففهَّمَهُ ذلكَ لئلاّ يَختلفَ عليهِ في إمامتهِ ودلالتِهِ كما فُهِّمَ سُليمانُ في حياةِ داودَ(عليه السلام) لكي تُعْرَفَ نبُوَّتُهُ وإمامتُهُ مِنْ بَعْدِهِ لِتَأكُّدِ الحجةِ على الخلقِ.
2- وأمّا سُجود يعقوبَ(عليه السلام) وَوُلْدهِ فكانَ طاعةً للهِ ومحبةً لِيُوسُفَ (عليه السلام)، كَما أنَّ السُّجودَ مِنَ الملائكة لِآدمَ (عليه السلام) لَمْ يَكُنْ لآدمَ وَإنّما كان ذلكَ طاعةً لله وَمَحَبَّةَ منهم لآدمَ(عليه السلام)، فسجودُ يعقوبَ(عليه السلام) وَوُلْدِهِ ويوسُفَ (عليه السلام) معهم كانَ شُكراً لله باجتماع شَمْلِهم، أَلَمْ تَرَهُ يقولُ في شُكرهِ ذلكَ الوقتِ: (رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنْ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ)[15] .
3- وأمّا قولهُ: (فإنْ كنتَ في شكٍّ ممّا أنزلنا إليكَ فاسألِ الذينَ يقرءونَ الكتابَ)، فَإنَّ المُخاطبَ بهِ رسولُ الله(صلى الله عليه وآله) ولمْ يكنْ في شكٍّ مِمّا اُنزلَ إليهِ ولكنْ قالتِ الجهلةُ: كيفَ لمْ يبعثِ اللهُ نبياً منَ الملائكةِ ؟ إذْ لمْ يَفْرُقْ بينَ نبيِّهِ وبيننا في الاستغناء عن المآكل والمشاربِ والمشي في الأسواق، فأوحى الله إلى نبيِّهِ: (فاسئلِ الذينَ يقرءونَ الكتابَ) بِمَحْضَرِ الجهلةِ، هلْ بعثَ اللهُ رسولاً قبلكَ إلاّ وهوَ يأكل الطّعامَ ويمشي في الأسواقِ ولكَ بهمْ اُسوةٌ، وإنّما قالَ: (فإنْ كنتَ في شكٍّ) ولَمْ يكُنْ شكٌ ولكنْ للنَّصَفَةِ، كما قالَ: (.. تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ)[16]، ولو قالَ: (عليكم) لمْ يجيبوا الى المباهلةِ وقد علِمَ اللهُ أنَّ نبيهُ يؤدِّي عنهُ رسالاتهِ وما هوَ منَ الكاذبين، فكذلكَ عَرَّفَ النبيُّ أنَّهُ صادقٌ فيما يقول وَلكنْ اَحَبَّ اَنْ يُنْصِفَ مِنْ نفسهِ.
4- واَمَّا قولُهُ: (وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ) فهوَ كذلكَ، لوْ أنَّ أشجارَ الدنيا أقلامٌ والبحرُ يمُدُّهُ سبعةُ أبحرٍ وانفجرتِ الأرضُ عُيوناً لَنَفِدَتْ قبلَ اَنْ تنفدَ كلماتُ الله، وهيَ عينُ الكبريت وعينُ أنمرِ وعينُ البرهوتِ وعينُ طبريةِ وَحَمَّةُ ماسَبْذانَ وحَمَّةُ إفريقيةَ يُدعى لَسْنانَ، وعينُ بحرونَ، ونحنُ كلماتُ الله الّتي لا تنفدُ ولا تُدْرَكُ فضائلنا.
5- وأما الجنةُ فإنَّ فيها المآكل والمشاربُ والملاهي ما تشتهي الأنفسُ وتلَذُّ الأعينُ، وأباح اللهُ ذلكَ كلَّهُ لآدمَ(عليه السلام)، والشجرةَ الَّتي نهى اللهُ عنها
آدمَ(عليه السلام) وزوجتَهُ أنْ يأكلا منها شجرةُ الحسدِ، عهِدَ إليهما أنْ لا ينظرا إلى منْ فضَّلَ اللهُ على خلائقهِ بعينِ الحسدِ فنسيَ ونظرَ بعينِ الحسدِ ولمْ يجدْ لهُ عزماً.
6- وأمّا قولهُ: (أوْ يزوجهُمْ ذكراناً وإناثاً) أيْ: يُولَدُ لهُ ذكور ويُولَدُ لهُ إناث، يُقالُ لكلِّ اثنين مُقرنين زوجان، كلُّ واحدٍ منهما زوج ٌ، ومعاذ الله أنْ يكون عنى الجليلُ ما لَبَّسْتَ به على نفسك تطلبُ الرُّخْصَ لارتكاب المآثم، ومنْ يفعل ذلكَ يَلْقَ أثاما، يُضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلُدْ فيهِ مُهانا، إنْ لمْ يتُب.
7- وأَمّا شهادة المرأة وحْدَها الّتي جازت فهي القابلة جازت شهادتها مع الرّضا، فإنْ لم يكن رضىً فلا أقلَّ من امرأتين تقوم المرأتان بدل الرجلِ للضرورة، لأنَ الرجلَ لا يمكنهُ أنْ يقومَ مقامها، فإنْ كانت وحدها قُبِلَ قولها مع يمينها.
8- وأمّا قولُ عليّ (عليه السلام) في الخنثى فهو كما قال (عليه السلام): ينظر قومٌ عدُولٌ يأخذ كلُّ واحدٍ منهم مرآةً وتقومُ الخنثى خلْفهم عُرْيانة وينظرون في المرايا فَيَروْنَ الشَّبحَ فيحكمون عليهِ.
9- وأمّا الرجلُ الناظر إلى الراعي وقد نزا على شاةٍ فإنْ عَرَفها ذبحها وأحرقها، وإنْ لمْ يعرفها قسمَ الغنمَ نصفينِ وساهم بينهما، فإذا وقع على أحدِ النصفينِ فقد نجا النِّصفُ الآخرُ فلا يزال كذلك حتّى تبقى شاتان فَيَقرعُ بينهما فاَّيتها وقع السَّهمُ بها ذُبِحَتْ واُحْرِقَتْ، ونجا سائر الغنم.
10- وأمّا صلاة الفجر فالجهرُ فيها بالقراءةِ، لأنَّ النبيَّ (صلى الله عليه وآله) كان يُغَلِّسُ بها فقراءتُها من الليل.
11- وأمّا قوْلُ عليّ (عليه السلام): بَشِّرْ قاتل بنِ صفية بالنار فهوَ لقولِ رسولِ الله (صلى الله عليه وآله)،
وكان ممَّنْ خرج يومَ النَّهروانِ فلمْ يقتلهُ أميرُ المؤمنين (عليه السلام) بالبصرة، لأنّهُ عَلِمَ اّنَّهُ يُقتَلُ في فتنة النَّهروان. 12- وأَمّا قَوْلُكَ: إنَّ عَلّياً(عليه السلام) قتل أهل (صِفِّين) مُقبلين ومُدبرين، وأجاز على جريحهم، وإنَّهُ يومَ الجملِ لمْ يُتْبِعْ مُوَلِّياً ولمْ يُجِزْ على جريح، ومَن ألقى سلاحه آمنهُ ومنْ دخلَ دارهُ آمنهُ، فإنَّ أهل الجمل قُتِلَ إمامهم ولم تكن لهم فئة يرجعون إليها، وإنّما رَجَعَ القوم إلى منازلهم غيرَ مُحاربين ولا مخالفين ولا منابذين، رضوا بالكفِّ عنهم، فكان الحكم فيهم رَفْعَ السَّيْفِ عنهم والكفَّ عنْ أذاهم، إذ لم يطلبوا عليهِ أعواناً، وأهل صِفِّينَ كانوا يرجعون إلى فئةٍ مُستعدةٍ وإمامٍ يجمع لهم السلاحَ: الدُّروعَ والرِّماح والسُّيوفَ ويُسني لهمُ العطاء، يُهيّءُ لهم الانزال، ويعودُ مريضهم، ويجبرُ كسيرهم، ويداوي جريحهم، ويحمل راجلهم، ويكسوا حاسرهم، ويرُدُّهُمْ فيرجعون إلى مُحاربتهم وقتالهم، فلمْ يُساوِ بين الفريقينِ في الحكم لما عرفَ من الحُكْمِ في قتال أهلِ التوحيد، لكنَّهُ شرح ذلك لهم، فمنْ رَغِبَ عُرِضَ على السيف أوْ يتوبُ مِنْ ذلك.
13- وأمّا الرجلُ الذي اعترف باللواط فإنّهُ لمْ تَقُمْ عليه بيِّنة وإنّما تطوَّعَ بالإقرار منْ نفسهِ، وإذا كان للإمام الذي منَ الله أنْ يُعاقب عنِ الله كان له أنْ يمُنَّ عن الله، أما سمعتَ قولَ اللهِ: (هذا عطاؤنا فامنُن أو أمسك بغير حساب)[17]، قدْ أنبأناك بجميعِ ما سالتنا عنهُ فاعلمْ ذلِكَ. [18]
[1] 1 الأنوار القدسية للشيخ محمد حسين الأصفهاني: ص112.
[2] سورة غافر: آية 84 -85.
[3] الكافي للشيخ الكليني: ج7، ص238.
[4] سورة التوبة: آية 25.
[5] الاحتجاج للطبرسي: ج2، ص258.
[6] مناقب آل أبي طالب ابن شهر آشوب: ج3، ص507.
[7] سورة النمل: آية 40.
[8] سورة يوسف: آية100.
[9] سورة يونس: آية 94.
[10] سورة لقمان: آية 27.
[11] سورة الزخرف: آية 71.
[12] سورة الشورة: آية50.
[13] سورة الطلاق: آية 2.
[14] أجاز على الجريح: أجهز عليه أي شد عليه وأتم قتله.
[15] سورة يوسف: آية 101.
[16] سورة آل عمران: آية 61.
[17] سورة ص: آية 39.
[18] تحف العقول لابن شعبة الحراني: ص479.