لم يكتفِ الإمام محمد الجواد(عليه السلام) في دفاعه عن مبدأ الإمامة ما لم يكن مطعّماً بمبدأ التوحيد، فالتشبيه والتجسيم صنمية الثقافة العباسية المستوردة من خلف الأسوار الإسلامية، تنتفض اليوم بعد أن دعاها معاوية بن أبي سفيان برجالاتها المنظِّرين: كعب الأحبار وأبو هريرة وأمثالهما، لإيجاد صيغ جاهزة تحرف المسيرة التوحيدية عن اتجاهها المحمدي الذي أرسى قواعده إبّان دعوته، وتتراجع هذه التنظيرات التجسيمية بعد تصدّي أهل البيت(عليهم السلام) خصوصاً، وعصر الإمامين الباقر والصادق(عليهما السلام) يسمحان للتحرك بهذا الاتجاه، إلّا أنّ عصر المزاوجة الثقافية بين الغرب المسيحي والشرق الإسلامي دعا المأمون أن يتسامح في إذكاء روح الثقافة التجسيمية من جديد، ولم يكن بوسع أئمة أهل البيت(عليهم السلام) إلّا أن يتصدَّوا لمثل هذه التيارات وإيقاف عتوِّها المقتلع لثوابت التوحيد.
وكان الإمام علي بن موسى الرضا(عليهما السلام) قد تمتّع بفرصة الحوار مع اُولئك المجسِّمة من المسلمين والديانات الاُخرى: يهودية ونصرانية ومجوسية وغيرها، فاغتنم فرصة المحاورات الرسمية التي عقدها المأمون لإظهار فضل الإمام الرضا(عليه السلام) ومقامه العلمي، وتصويب رأيه في اختياره الموفق للإمام ولياً للعهد، واليوم خليفته الجواد يعتلي منصّة الحوار، ويلقي من نظريات التوحيد ما توقّف معها انتهاكات اُولئك المجسِّمة وأمثالهم.
ففي جوابه لمن سأله عن الرب تعالى: ألَهُ أسماء وصفات في كتابه؟ وهل أسماؤه وصفاته هي هو؟
فقال أبو جعفر(عليه السلام): «إنّ لهذا الكلام وجهين: إن كنت تقول: (هي هو) أنّه ذو عدد وكثرة فتعالى الله عن ذلك، وإن كنت تقول: (هذه الأسماء والصفات لم تزل) فإنّ ممّا لم تزل محتمل على معنيين.
فإن قلت: لم تزل عنده في علمه وهو يستحقها فنعم، وإن كنت تقول: لم تزل صورها وهجاؤها وتقطيع حروفها فمعاذ الله أن يكون معه شيء غيره، بل كان الله تعالى ذكره ولا خلق، ثم خلقها وسيلة بينه وبين خلقه، يتضرعون بها إليه ويعبدون، وهي ذكره وكان الله سبحانه ولا ذكر، والمذكور بالذكر هو الله القديم الذي لم يزل، والأسماء والصفات مخلوقات، والمعنيّ بها هو الله، لا يليق به الاختلاف ولا الائتلاف، وإنّما يختلف ويتألّف المتجزّئ، ولا يقال له: قليل ولا كثير، ولكنّه القديم في ذاته؛ لأنّ ما سوى الواحد متجزِّئ، والله واحد لا متجزّئ ولا متوهّم بالقلّة والكثرة، وكل متجزّئٍ أو متوهّم بالقلة والكثرة فهو مخلوق دالّ على خالق له، فقولك: (إن الله قدير) خبّرت أنه لا يعجزه شيء، فنفيت بالكلمة العجز، وجعلت العجز لسواه، وكذلك قولك: (عالم) إنّما نفيت بالكلمة الجهل وجعلت الجهل لسواه، فإذا أفنى الله الأشياء أفنى الصورة والهجاء والتقطيع فلا يزال من لم يزل عالماً».
فقال الرجل: فكيف سمّينا ربّنا سميعاً؟
فقال(عليه السلام): «لأنّه لا يخفى عليه ما يُدرَك بالأسماع، ولم نَصِفه بالسمع المعقول في الرأس، وكذلك سمّيناه بصيراً لأنّه لا يخفى عليه ما يُدرَك بالأبصار من لون أو شخص أو غير ذلك، ولم نصفه ببصر طرفة العين، وكذلك سمّيناه لطيفاً لعلمه بالشيء اللطيف مثل البعوضة وما هو أخفى من ذلك، وموضع المشي منها والشهود والسفاد، والحدب على أولادها، وإقامة بعضها على بعض، ونقلها الطعام والشراب إلى أولادها في الجبال والمغاور والأودية والقفار، وعلمنا بذلك أنّ خالقها لطيف بلا كيف، إذ الكيف للمخلوق المكيَّف.
وكذلك سمّينا ربّنا قوياً بلا قوة البطش المعروف من الخلق ولو كانت قوته قوة البطش المعروف من الخلق لوقع التشبيه واحتمل الزيادة، وما احتمل الزيادة احتمل النقصان، وما كان ناقصاً كان غير قديم، وما كان غير قديم كان عاجزاً، فربنا تبارك وتعالى لا شبه له، ولا ضدّ ولا ندّ، ولا كيفية، ولا نهاية، ولا تصاريف، محرّم على القلوب أن تحمله، وعلى الأوهام أن تحدّه، وعلى الضمائر أن تصوّره، جلّ وعزّ عن أداة خلقه، وسمات بريّته، تعالى عن ذلك علواً كبيراً»[1].
وفي رواية داود بن القاسم الجعفري قال: قلت لأبي جعفر الثاني(عليه السلام):
(قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ)[2].
ما معنى الأحد؟
قال: «المجمع عليه بالوحدانية، أما سمعته يقول: (وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللهُ)[3]. ثم يقولون بعد ذلك: له شريك وصاحبة».
فقلت: قوله: ﴿لَا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ﴾[4]؟
قال: «يا أبا هاشم، أوهام القلوب أدقّ من إبصار العيون، أنت قد تدرك بوهمك السِند والهند والبلدان التي لم تدخلها، ولم تدرك ببصرك ذلك، فأوهام القلوب لا تدركه، فكيف تدركه الأبصار»[5] .
وفي حديث بن أبي نجران قال: سألت: أبا جعفر الثاني(عليه السلام) عن التوحيد، فقلت: أتوهم شيئاً؟
فقال: «نعم، غير معقول ولا محدود، فما وقع وهمك من شيء فهو خلافه، لايشبهه شيء ولا تدركه الأوهام، كيف تدركه الأوهام وهو خلاف ما يعقل وخلاف ما يتصور في الأوهام؟ إنّما يتوهّم شيء غير معقول ولا محدود»[6].
وسئل(عليه السلام): أيجوز أن يقال لله: إنّه شيء؟
فقال(عليه السلام): «نعم، تخرجه من الحدّين: حدّ الإبطال، وحدّ التشبيه»[7]. فمثل هذا الواقع الإسلامي الذي أغرقته نظريات المتفلسفين القادمة ضمن حملات الترجمة التي بدأها المأمون في جلب الكثير من كتابات الروم الفلسفية، وتوجّهات الهند القصصية، ومساعي الفرس الأدبية، فضلاً عن ثقافات أهل الصين، ومحاولات الترك، ونزعات البربر، وفنون اليونان، وغيرها من تجسيمات اليهود، وتثليث النصارى، واختلافات أهل الملّة، كل ذلك أربكت عقلية الفرد وأودت بالجماعة الإسلامية إلى تقمّصات هذه الثقافات الجديدة غير الواعية في معرفة صفات الله، فخلطت بين صفات الذات وصفات الفعل، وأثبتت من صفات التنزيه ما كان ينبغي أن تجلّ عنه الذات وتوصف به أفعاله تعالى، وانزلق المجتمع الإسلامي إلى مهاوي التشبيه ومحاولات الإلحاد، حتى كان للإمام الجواد وقبله والده الإمام الرضا (عليهما السلام) الأثر في صدّ عادية هذه التيارات الفكرية المنحرفة.. وأنت ترى ما لهذه الاُسس التوحيدية في كلام الإمام الجواد من أثر في انتشال المدرسة الإسلامية من مخاطر الانحراف الفكري القادم.