بعد معرفة ما تقدم نعرض لأهم الشبهات التي احتفت بها إمامة الإمام الجواد(عليه السلام) ونجيب عنها بما هو مذكور على لسانه(عليه السلام) أو لسان باقي الأئمة(عليهم السلام) أو علماء الفرقة رضوان الله عليهم حتى لا يبقى مجال للتشكيك في إمامته(عليه السلام).
الشبهة الأولى: إمامة الصبي:
نهض الإمام الجواد(عليه السلام) بأعباء الإمامة الشرعية للمسلمين وهو بعد لمّا يبلغ الحلم على نحو ما حدث لعيسى بن مريم(عليه السلام) حيث أُوتي النبوّة في المهد، وقد أوجدت هذه الظاهرة حالة من التساؤل والتشكيك لدى البعض من الموالين لأهل البيت(عليهم السلام) والمعتقدين بإمامتهم بعد رسول الله(صلى الله عليه وآله)، لكن الإمام(عليه السلام)
استطاع أن يدحض هذه التشكيكات ويجيب على التساؤلات المعلنة والخفيّة بما أوتي من فضل وعلم وحكمة وحنكة.
أما التساؤلات فقد تمّ حسمها بدرجة ما، من خلال الأحاديث والتوجيهات والإشارات التي صدرت عن والده الإمام عليّ الرضا(عليه السلام) وانتشرت بين مقرّبيه ورؤساء القوم الموالين لأهل البيت(عليهم السلام) في البلدان كمصر والحجاز والعراق وبلاد فارس.
على أنّ الإمام الجواد(عليه السلام) نفسه قد قام بنشاط واسع لتبديد تلك الشكوك التي أُثيرت بشكل أو بآخر بعد وفاة الإمام الرضا(عليه السلام) وهو ما نفهمه من خلال بعض الروايات الواردة بهذا الشأن، ومنها ما يلي:
أ ـ أورد السيد المرتضى(رحمه الله) في عيون المعجزات أنّه: لما قبض الرضا(عليه السلام) كان سن أبي جعفر(عليه السلام) نحو سبع سنين، فاختلفت الكلمة بين الناس ببغداد وفي الأمصار، واجتمع الريّان بن الصلت، وصفوان بن يحيى، ومحمد بن حكيم، وعبد الرحمن بن الحجّاج، ويونس بن عبد الرحمن، وجماعة من وجوه الشيعة وثقاتهم في دار عبد الرحمن بن الحجاج في بركة زلول، يبكون ويتوجّعون من المصيبة، فقال لهم يونس بن عبد الرحمن: دعوا البكاء مَن لهذا الأمر والى من نقصد بالمسائل إلى أن يكبر هذا؟ يعني أبا جعفر(عليه السلام).
فقام إليه الريّان بن الصلت، ووضع يده في حلقه، ولم يزل يلطمه، ويقول له: أنت تظهر الإيمان لنا وتبطن الشك والشرك.
إن كان أمره من الله جل وعلا فلو أنه كان ابن يوم واحد لكان بمنزلة الشيخ العالم وفوقه، وان لم يكن من عند الله فلو عمّر ألف سنة فهو واحد من الناس، هذا ممّا ينبغي أن يفكّر فيه فأقبلت العصابة عليه تعذله وتوبّخه.
وكان وقت الموسم، فاجتمع فقهاء بغداد والأمصار وعلماؤهم ثمانون رجلاً، فخرجوا إلى الحج، وقصدوا المدينة ليشاهدوا أبا جعفر(عليه السلام)، فلمّا وافوا أتوا دار جعفر الصادق(عليه السلام) لأنها كانت فارغة، ودخلوها وجلسوا على بساط كبير، وخرج إليهم عبد الله بن موسى، فجلس في صدر المجلس وقام مناد وقال: هذا ابن رسول الله فمن أراد السؤال فليسأله.
فسئل عن أشياء أجاب عنها بغير الواجب فورد على الشيعة ما حيّرهم وغمّهم.
واضطرب الفقهاء، وقاموا وهمّوا بالانصراف، وقالوا في أنفسهم: لو كان أبو جعفر(عليه السلام) يَكُمل لجواب المسائل لما كان من عبدا لله ما كان، من الجواب بغير الواجب.
ففُتح عليهم باب من صدر المجلس ودخل موفّق وقال: هذا أبو جعفر، فقاموا إليه بأجمعهم واستقبلوه وسلّموا عليه فدخل صلوات الله عليه، وعليه قميصان وعمامة بذؤابتين وفي رجليه نعلان وجلس وأمسك الناس كلهم، فقام صاحب المسألة، فسأله عن مسائله، فأجاب عنها بالحق، ففرحوا ودعوا له وأثنوا عليه وقالوا له: إن عمّك عبد الله أفتى بكيت وكيت، فقال: «لا اله إلاّ الله يا عمّ إنّه عظيم عند الله أن تقف غداً بين يديه فيقول لك: لِمَ تفتي عبادي بما لم تعلم، وفي الأمة من هو أعلم منك؟!»[1] .
ب - وقال إسماعيل بن بزيع: سألته ـ يعني أبا جعفر الثاني(عليه السلام) عن شيء من أمر الإمام، فقلت: يكون الإمام ابن أقلّ من سبع سنين؟ فقال(عليه السلام): «نعم وأقل من خمس سنين»[2].
ج ـ قال علي بن أسباط: «رأيت أبا جعفر(عليه السلام) وقد خرج عليّ فأخذت أنظر إليه وجعلت انظر إلى رأسه ورجليه، لأصف قامته لأصحابنا بمصر فبينا أنا كذلك حتى قعد، فقال(عليه السلام): يا عليّ ! إن الله احتج في الإمامة بمثل ما احتج في النبوة، فقال: (وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيّاً)[3]، (وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ)[4]، (وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً)[5]، فقد يجوز أن يؤتى الحكمة وهو صبي ويجوز أن يؤتاها وهو ابن أربعين سنة» [6] .
ولا نتردد بالقول إنّ تصدي الإمام الجواد(عليه السلام) لإمامة المسلمين وهو صبي كان معجزة بذاته.
الشبهة الثانية: زواج الإمام(عليه السلام) من بنت المأمون:
ونتساءل لماذا أقدم الإمام الجواد(عليه السلام) على الزواج من بنت المأمون العباسي، الذي كان أبرز أعداء الإمام(عليه السلام) وخاصة بعد أن تسبب في استشهاد والده الإمام الرضا(عليه السلام)؟
ولكي نعرف الإجابة عن مثل هذا السؤال لابدّ أن نلقي نظرة على الحركة الرسالية التي كان الأئمة(عليهم السلام) يقودونها ويوسعونها، في عصر الإمام الرضا ونجله الإمام الجواد(عليه السلام).
ففي عهد المأمون تحوَّلت الحركة الرسالية إلى حركة تستطيع أن تتداخل مع النظام وتستفيد من مظلته أو حتى تكوّن ما يسمى اليوم بحكومة ائتلافية، مع أي دولة من الدول، والأئمة(عليهم السلام) كانوا يقبلون بالحماية من قبل الدولة بدون أن يفقدوا رسالتهم.
والأئمة المعصومون(عليهم السلام) لم يحلوا حركتهم، أي أنهم لم يقبلوا بالخلافة ولم يشتركوا فيها، والدليل على ذلك موقف الإمام الرضا من ولاية العهد حيث قَبِلَها بشرط عدم التدخل في شؤون النظام.
أما الإمام الجواد(عليه السلام) فحينما خطب أبنة المأمون وتزوجها، أصبح صهر الخليفة واستفاد من ذلك لأجل رسالته فماذا يعني أن يصبح شخص صهراً للخليفة؟
إن من يدخل البلاط يمكن أن يصير والياً على منطقة، أو حاكماً على بلد، أو قاضي القضاة لا أقل، ولكن الإمام الجواد(عليه السلام) لم يفعل شيئاً من ذلك، بل أخذ بيد زوجته وذهب إلى المدينة وبقي هناك حتى مات المأمون العباسي.
فماذا كسب الإمام(عليه السلام) من هذه المصاهرة؟
كسب الإمام الجواد (عليه السلام) بهذا العمل أمرين:
أولاً: منع المأمون من أن يقوم بعملية اغتياله، وذلك بقبوله الزواج من ابنته.
ثانياً: جعل مخالب السلطة وأنيابها في قفص الحركة الرسالية، وذلك أن المأمون ما كان ليجرؤ بعد ذلك على أن يقوم بالفتك برجالات الحركة ومجموعاتها.
ولقد كان هذا الأسلوب متبعاً في كثير من عصور الأئمة(عليهم السلام)، وخير شاهد على ذلك قصة علي بن يقطين بن موسى البغدادي الذي كان بمثابة مستشار للخليفة المهدي العباسي، ثم صار في رتبة الوزير لهارون الرشيد، وعندما حصل على هذا المنصب وكان اتجاهه رسالياً، جاء إلى الإمام
الكاظم(عليه السلام) وقال: «يا ابن رسول الله أنا صرت عوناً لهذا الطاغية» وأراد أن يستقيل، ومعروف أن الذي يحصل على هذا المركز ذلك اليوم يسيطر على مرافق أكبر دولة في العالم.
فطلب منه الإمام أن يظل في عمله، ويستمر في أداء مهامه الرسالية ويبقى في بلاط هارون، وعاود الطلب من الإمام بأن يأذن له بترك السلطة إلاّ أن الإمام لم يأذن له، ولقد كانت أعماله كبيرة بالنسبة للحركة، حتى أن الإمام الكاظم (عليه السلام) قال فيه عندما دخل عليه داود الرقي، في يوم النحر: «ما عرض في قلبي أحد وأنا على الموقف إلاّ علي بن يقطين، فإنه ما زال معي وما فارقني حتى أفضت»[7].
أما نية المأمون من مصاهرة الإمام لعلها تفهم بشكل آخر:
1- إنّه أراد التمويه على الرأي العام بإظهار براءته من اغتياله للإمام الرضا(عليه السلام) فإنّه لو كان قاتلاً له لما زوّج ابنه من ابنته.
2- إنّه حاول الوقوف على نشاط الإمام الجواد(عليه السلام) والإحاطة باتّجاهاته السياسية، ومعرفة العناصر الموالية له، والقائلة بإمامته، وذلك من طريق ابنته التي ستكون زوجة له.
3- لعلّ من أهم الأسباب، وأكثرها خطورة هو أنّ المأمون قد حاول من هذه المصاهرة جرّ الإمام إلى ميادين اللهو واللعب ليهدم بذلك صرح الإمامة الذي تدين به الشيعة، والذي كان من أهمّ بنوده عصمة الإمام وامتناعه من اقتراف أي ذنب عمداً كان أو سهواً، وكان من الطبيعي أن يفشل في ذلك فإنّ الإمام(عليه السلام) لم يتجاوب معه بأيّ شكل من الأشكال، ولو كان في ذلك إزهاق نفسه، أمّا ما يدلّ على ذلك كلّه فهو ما رواه ثقة الإسلام الكليني قال ما نصّه: (احتال المأمون على أبي جعفر(عليه السلام) بكلّ حيلة فلم يُمْكّنهُ فيه شيء، فلمّا اعتلّ وأراد أن يبني عليه ابنته ـ أي يزفها اليه ـ دفع إلى مائتي وصيفة من أجمل ما يكون إلى كلّ واحدة منهنّ جاماً فيه جوهر يستقبلن أبا جعفر إذا قعد في موضع الأخيار، فلم يلتفت إليهنّ، وكان هناك رجل يقال له مخارق، صاحب صوت وعود، وضرب، طويل اللحية فدعاه المأمون، فقال: يا أمير المؤمنين إن كان شيء من أمر الدنيا فأنا أكفيك أمره، فقعد بين يدي أبي جعفر(عليه السلام) فشهق مخارق شهقة اجتمع عليه أهل الدار، وجعل يضرب بعوده، ويغنّي، فلمّا فعل ساعة وإذا أبو جعفر لا يلتفت إليه يميناً ولا شمالاً، ثمّ رفع إليه رأسه، وقال: اتّق الله يا ذا العثنون[8] قال: فسقط المضراب من يده والعود، فلم ينتفع بيديه إلى أن مات، فسأله المأمون عن حاله قال: لمّا صاح بي أبو جعفر فزعت فزعة لا أُفيق منها أبداً[9].
وكشفت هذه الرواية عن محاولات المأمون لجرّ الإمام(عليه السلام) إلى ميادين اللهو، فقد عرض له جميع ألوان المغريات، وكان الإمام آنذاك في ريعان الشباب، فاعتصم(عليه السلام) بطاقاته الروحية الهائلة، وامتنع عمّا حرّمه الله عليه، وقد أفسد(عليه السلام) بذلك مخطّطات المأمون الرامية إلى إبطال ما تذهب إليه الشيعة من عصمة أئمتهم، وكانت هذه الجهة ـ فيما نحسب ـ هي السبب في إضفاء لقب التقي عليه لأنّه اتّقى الله في أشدّ الأدوار، وأكثرها صعوبة، فوقاه الله شرّ المأمون.
[1] بحار الأنوار للعلامة المجلسي: ج50، ص99-100.
[2] الكافي للشيخ الكليني: ج1، ص384.
[3] سورة مريم: آية 12.
[4] سورة القصص: آية 14.
[5] سورة الأحقاف: آية 15.
[6] الكافي للشيخ الكليني: ج1، ص314 .
[7] جامع الرواة للعلامة الأردبيلي: ج 1، ص 609.
[8] العثنون: اللحية، أو ما فضل منها بعد العارضين أو طولها.
[9] الكافي للشيخ الكليني: ج 1، ص 494 - 495.